زواريب عين الحلوة..ألف قصة وقصة!

 

إن أكثر الأشياء التي تضيق في سكان تلك البقعة الغير معترف بها وبسكانها في كوكب الأرض، ليس ضيق المساحات وحسب، أو اكتظاظ السكان الذي أدى في نهاية الأمر إلى أن تسكن ثلاثة أجيال في منزل ذي حمام ومطبخ مشترك..

إنما تعقيدات العادات والتقاليد التي لم يعرف منها إلا العيب والحرام، ولم تحصر قوانينها إلا على الجنس اللطيف… ككل بقاع الأرض.

لكن المسألة هنا هو غياب المقاهي الداخلية، والمطاعم التي من الممكن أن يجلس فيها اثنان دون أن يسألهما ثالث ما صلة القرابة بينكما؟

كجارتنا دينا، كانت جميلة، بتفاصيل عربية أكثر من اللازم، وأكثر إخوتها عقلانية واتزان، مثل الكثير من الفتيات أحبت أن تخوض بعض التجارب قبل أن يتقدم لها أحدهم فيعلن أباها موافقته دون أن يسألها مجرد سؤال “مرتاحة؟”

سمعت ذات يوم صوت والدتها وهو يرتفع ثم يهدىء، يرتفع عندما ترفع يداها ويهدىء عندما تهبط على جسدها ليسمع المارة أنها “تربي” ابنتها حسب المفاهيم والأصول!

ذهبت إليها بعد أن عصرت عينها وبكت قدر استطاعتها، وسألتها: شو صار؟

اجابتها كانت منطقية بالنسبة لي، في بقعة تحكم فيها القبائلية والعادات والتقاليد أكثر من اللازم، وتحرم الفتاة من اكمال تعليمها، ففي المخيم  تنهي أغلب الفتيات التوجيهي لينتقلن بعد ذلك إلى تعلم إحدى المهن كالحياكة أو تصفيف الشعر في أغلب الوقت، والجزء القليل منهن يتجه إلى سبيلين أو في الحالات النادرة للجامعة اللبنانية كي يكملن أحلامهن..

دينا لم تكن من الفتيات اللواتي تخرجن حتى من مرحلة التوجيهي، بل توقفت عن التعليم لأنها رأت فيه صعوبة وفي نفسها العجز عن حفظ الكلمات ورصها بشكل صحيح في ورقة الاجابة بالاختبارات، وقررت أن تتعلم الحب، أن تكون أنثى قبل أن تفوح من ملابسها رائحة البصل لتؤكد أنها “ست بيت بحق وحقيق”

في إحدى الزواريب الملاصقة لبيتها، ومع تأكدها من غياب أبيها وأخيها، التقت بحسن، لم تتفوه بكلمة واكتفت بالنظر إلى عينه، وقبل بدوره يديها..ثم هرولت إلى الخلف لتعود الى منزلها.

أذكر كم كانت تلك القبلة تعني لها الكثير، وكم كرهت مسألة أن يذهب والدها لأمها ويشكو لها سوء تربية ابنتها، أن يعلن على الملأ أنها هي المخطئة وهي المذنبة وعليها وحدها فقط أن تتحمل ذنب الفضول الطفولي الذي اعتراها وهي ابنة الثلاثة عشر عاماً..

في تلك الزواريب، تجد في الخطوط الأولى من الفجر الكثير من القطط الضالة، في الصباح وبعد أذان الفجر قد تسمع طلقة من الرصاص فيصرخ المارة وهم يسحبون جثة أحدهم معلنين أنه شهيد، لا سبب في قتله سوى انه ينتمي الى تيار دون الآخر، أو أنه تفوه بكلمة في غير محلها!

في تلك الزواريب، الكثير من قبلات اليد والعنق..طبعت، والأسرار التي احتفظت بها الجدران لتهترء مع الزمن دون أن يعرف عنها أحد.

وهي الممرات نفسها التي مشيت فيها في زياراتي، وأنا أبحث عن اجابة لسؤالي:  راجعين؟

عند الإشتياق لا تكفيك الخطوط المدفوعة.. في مخيم لا تسمع به الأصوات جيداً

أن تكون أختي التي لم أحظى بمخالطتها إلا لعامين..

عامين من عمر بأكمله يعيش فيه جسدي بلا هوية، نصفي هنا والآخر مني هناك..حيث تكمن هي!

أذكر  يومنا الأخير بأرض وطنٍ لا يشبه من ملامحنا شيء، في بقعة تلتقي فيها كل الوجوه التي لا يشبه أحدها الآخر

ودعتها.. وفي يدها لعبة لعروسة من شواطىء هاواي الأمريكية..

رجفت شفتها العليا، حبست الدمع في عيني..ليبكي قلبي ليلتها

بكى قلبي كثيراً لأنني رحلت قبلها في إجازة لم أحسبها أنها ستطول، لأتصل بها، فيأبى أن يكون وداعنا الأخير عبر هاتف عتيق أسلاكه مكشوفة في مخيم لا تسمع به الأصوات جيداً

كل الأصوات في المخيم مكسورة، كصوتي وصوتها وسماعة الهاتف المهترئة

بكينا حتى احتضنتنا الكلمات، طبطبت على رأسي وهي تناديني.. 

لم أحدثها كثيراً، فعند الإشتياق لا تكفيك الخطوط المدفوعة

عند الإشتياق، لا تتحدث بتكنولوجيا تطلب منك مالاً مقابل كل ثانية، بل اتجه إلى أتعس الطرق لكي تحكي على الملأ معنى أن تكون لك أختاً.. تشبهك حد الذي يصدم المارة من حولك.. في النصف الآخر من العالم

سبع سنوات وأكثر، تتبادلا القبل والأحضان عبر زيارة الأم والأخت وهدايا متناقلة بين الطرفين

يحدث أن تلتقي العالم كله في ليلة.. وتمضي عمرك بحثاً عن وجه يشبهك

وجه أحببته لأنك رأيت ذاتك به

لأنك تريد أن ترى ذاتك به ليبقى فتات ثقتك بنفسك حياً

ما الذي فعلته الغربة بنا يا لمياء؟

حدثيني أنت عن المكان الذي لا يشبهك..

عن آخرون سرقوك مني وحرموني..لحظة أبكي فيها على كتفيك فتبكي معي حتى أهدأ

حدثيني عن عالم هاوي في تشتيتنا أكثر، في تغريبنا، نحن اللتان حرمة احدانا وطنها والأخرى حرمها الوطن من حبه

كيف لنا أن نلتقي بعد أن طول شعري كثيراً وكان قد حلف ذات مساء أن لا يطول إلا بعد أن تأتي لتصفيفه بيديك

كيف لنا أن نلتقي، وأصواتنا في ذلك الهاتف..فقدت الكثير من التفاصيل، حتى لا تبكي إحدانا،  فتعجز الأخرى عن احتضانها..

عين الحلوة تبكي شبابها المهاجر للبحث عن وطن

مرة قرابة الثمانية أعوام منذ أن التقيته آخر مرة، أسامة.. ذاك الشاب فاره الطول، ذو الابتسامة الخجولة وحركات الجسد التي تفضح قلة خبرته في التعامل مع النساء من حوله.

يشبه في طلته كافة شباب المخيم، بدءاً من بلوزة “الشباح” الذي يلبسها على الدوام لتبرز عرض كتفيه، وصولاً بالبنطال الذي يزين أطرافه السفلية بعضاً من الخيطان البيضاء، أحياناً تدل على الموضة وفي الكثير من الأحيان الأخر تدل على عمر السنوات التي تصادق فيه أسامة مع بنطاله دون أن يشتكيه أو يعرضه على أحد لتجميل أطرافه.

كان راضياً وقنوع، ولم يبدو عليه أبداً الطموح والجرأة التي أوصلته إلى ايطاليا عبر البحر، البحر ذاته الذي ابتلع ساجد بعد الحرب على غزة، وهو ذاته الذي لم يشبع من دم الفلسطينيين في محيطه وبقاعه، بل بات متعطشاً كلما شم على بعد أمتار رائحة الدم المنبعثة من تفاصيلهم كافة.

كان وفير الحظ، على غير عادة، استطاع أن يصل حيث أراد وان كانت الهجرة الغير شرعية هي المنفذ الوحيد ليكون ولو لمرة في حياته ابن المخيم الذي سيقص على الملأ قصته، ربما لم يكن فالحاً في الكتابة، أو في الحديث، لكن الفلسطيني يكفيه أن يبكي مرة أو يصرخ على الهاتف حنيناً وهو يردد “كيفك يابا كيفك يما” ليعرف المارة أن لهذه النبرة..الكثير من الحكايات والقصص!

 

أتذكر كم من مرة وبخته على جلوسه الطويل أمام عتبت منزل جدتي، أو صوته المرتفع وهو يتجادل مع والدته في المسألة ذاتها كل ليلة وهو تأخره لنصف ساعة عن الموعد المحدد الذي تغلق فيه والدته بوابة المنزل.

لا تبدو عليه المشاكسة، كما لا يبدو عليه الهدوء دائماً، لا أعلم تحديداً ما الذي يفعله في الغربة، وما قصة صورته وهو يكنس أرضية أحد البيوت بفانلته البيضاء، تراه أكان يحتفظ كغيره من الشباب العرب ببعض من الصور التي سيتفاخرون يوماً بها مع مطبات غربتهم واعتمادهم على نفسهم الذي تحتم عليهم دون استئذان، أم أنه التقطها في مكان عمله، المنفذ الوحيد ليعيل نفسه حتى يستطيع أن يعيل بدوره عائلته؟

حقيقة لا أعلم، كل ما أتذكره حول اسامة، جل الشعر الكثيف، وسيجارته التي كان يتناوب على سحب أنفاسها هو وأحمد ابن عمه.. والإختلاف الشاسع بينه وبين أخيه البكر الذي فاز بفرصة اكمال جامعته في لبنان ولم يفز يوماً بأن يكون الأخ الأصغر..ليغلق البحر فمه ويسمح له بالمرور دون غدر هذه المرة!