أطفال عين الحلوة

by

هم الوجع.. وحلم العودة من جديد!

مساحة ذابت ملامحها وتلاشت، تغيرت تماماً منذ أن زاد عدد ساكنيها إلى ثلاثة أضعاف.

بيوت فوق بعضها البعض، طوابق مكدسة عمرت فوق بنية لا تحمل من الضمير شيئاً ولا من وجعهم أشياء.

قد تسقط يوم تمل، دون سابق انذار، وبلا إشارات سماوية هذه المرة.

لا أحد يعلم متى، لكنهم يعلمون جيداً أنه ليس باليوم البعيد.

***

في مخيم عين الحلوة، وهو أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، تقام زفة العريس في شوارع متعرجة، لها ايقاعها الخاص ومن الفرحة الكثير من النصيب.

شهدت على روائح الأحزاب والطائفية والوجع الفلسطيني الموحد بالدماء وحلم العودة. في سطح المنازل، كل المنازل، أقيمت حفلات الخطوبة والزواج وزينت الأجواء أغاني على خطى فارس كرم ولكن بطابع ديني امتاز به أهل المخيم في كل المناسبات.

***

تلعن خالتي جارتنا التي تسرع في تشغيل (الشفاط) لسحب المياه فور عودة الكهرباء بالسلامة بعد غياب قد يدوم ساعات أو أياماً في معظم الأحيان..

أحياناً لا ينال الجميع من تلك المياه نصيبهم، نعود مجدداً إلى نقطة البنية التحتية، فهناك الكثير من البيوت التي عمرت بمساحة أنابيب مياه أعمق مما يجب أو أكثر ارتفاعاً من أن تكتفي من الماء الفائض كجارتنا، تجدها هي وأصحاب النصيب ينفضون بيوتاً بأكملها، ثم يصرخون “خلص الخزان، تكو الآزان! ”

***

في الشارع ترى مزيج من البراءة والرجولة.. بائع الخروب يمتلك بيتاً من ثلاثة طوابق – تقول جدتي أنه ينال حصته من الحزب الذي ينتمي إليه- فالخروب كما تعلمون؟، ما بيعمر بيت!

طفل آخر، ترك الدراسة باكراً، فارس الذي كان أصغر إخوته وأكثرهم تمرداً على الواقع المر الذي يحيط به كيفما تحرك.

ورث مهنة والده في صبغ البيوت، رسم لنفسه مستقبلاً، وورشة وعمال..وعروس! عروس لا تشبه من حوله من بنات المخيم، طبع تفاصيلها في رأسه، جسم هيفاء، شعر إليسا، دلع نانسي وذكاء نجوى كرم..

ارتطم في نهاية مخيلاته تلك بالحقيقة أن من أمامه لا يشبهن إلا الوجع وحلم العودة من جديد!

***

على فتحات الزواريب، أطفالاً بعمر الزهور، أضحوا باعة فجأة بصرخة من الوالدة حفظها الله لهم أو كسل من الوالد أطال الله بعمره ليعيشوه!

تجد في أحضانهم ما لذ وطاب، ترمس مع الحامض، فول مع الكمون، عنبر شي أخضر وشي أحمر، عرنوس ذرة مشوي أو مسلوق على كيف كيفك، وأرطال من بذر البطيخ الأحمر والأصفر!

طفولتهم عبارة عن أصوات عالية، ينادون بها للمارة كي يقتربوا، كي لا يعودوا محملين، فيحملوا فوق عاتقهم هم صراخ الأم وهم ضرب الأب وهم الغد.. هم الوجع وحلم العودة من جديد!

***

الفتيات هناك، قلما تجد من تكمل تعليمها، حيث تشرب الفتاة جرعات من اليأس عندما تفطم من ثدي أمها وهي ابنة العامين..

تلقن منذ الصغر درساً أن “ظل راجل ولا ظل حيطة” وتضرب حد الذي يزرق فيها جسدها إن فكرت أن تحظى بغير الذي اختاره الأهل لها..

تجدها محترفة كثيراً في شرب القهوة التركية بسكر إضافي، وإن سألت عن السبب فستسمع إجابة موحده “الحياة مرة..كمان القهوة نشربها مرة! ”

كل فتيات المخيم عملن في صالونات التجميل، ثم باعة لملابس الحريم.. كلهن كدوا كثيراً لأجل الحصول على عريس لقطة وهن في ربيعهن العشرين.. بعد أن فسخن خطوبتهن لثلاثة مرات فأكثر! ما أجمل سقف أحلامهن.. وما أقل حظوظهن..

***

“تبنتت” مصطلح سمعته مؤخراً من والدتي، يطلق على الفتاة التي فاق عمرها الخمسين ولم تتزوج بعد، لا أعلم من أين جاءت التسمية، لكنتي سألتها كثيراً

“وما المسمى الذي يطلق على الذكر في هذه الحالة؟” لم تجيبني أمي.. لأدرك أن المخيم مشبع بالفروق بين المتبنته والذكر.. وموحد بهم الوجع..وحلم العودة من جديد!

Write a Comment

Comment