لماذا الحلوة وليس غيرها؟

كل المخيمات الفلسطينية حول العالم تضم لي قريباً واحداً على الأقل، لا تسألوني كيف فنحن الفلسطينيون نتقارب بالأرض وليس بالدم فقط!

لكن الحلوة، تبقى على رأس القائمة دوماً، ليس لأنها أكبرهم أو أكثرهم جمالاًَ.. بل لأنها تضم رائحة عائلتي الأولى تلك التي نزحت ذات صباح من صفد واستقرت بين الشتات والتشرد في تلك البقعة التي لا تتعدى مساحتها كيلو متر مربع واحد!

ولأن سكانه قرروا أن يتحاملوا على الواقع المرير، أن يكتظوا ويتكاثروا حتى وصلوا إلى 80 ألف نسمة، قررت أن أمنح نازحي عام 1948 من قرى الجليل في شمال فلسطين القليل من حقهم الذي رضوا بأقله في ثمانية مدارس وعيادتان للأونروا ومستشفيين صغيرين للعمليات البسيطة فقط!

ومايزيد الواقع المر مرارة، أن تجد رغم التطور الذي وصلنا له، تراجعاً أخلاقياً وانسانياً حيال ساكنوا المخيمات، وكأن مكانهم ليس على هذه الأرض، وكأنهم لا يستحقوا أبداً أن يكونوا عليها في الأساس!

وجدت الكثير ممن يرى في دخول المخيم “بطولة” ترفع لأجلها زغاريط الكلمات التي تتنوع في دهشتها بين التصفيق بحرارة أو الصراخ بأعلى نبرة، خوفاً وخشيةً من “الوحوش” الذين يقبعون هناك خلف الحواجز التي زادت تعقيداً ووجعاً لكرامتهم!

قد يستغرب المارين من هنا، أن في ذلك المخيم الذي يحيط به من كل زاوية حاجز لبناني، والذي قد يشهد أصواتاً لطلقات نارية أو اشتباكات داخلية “بين الأخوة” يوجد أيضاً من بين أولئك أصحاب “اللحى والذقون” والمظهر الفلسطيني ذا التجاعيد المتفرقة من يعتصر قلبه ألماً على صوت نواء لقطة ضالة جائعة.

في تلك البقعة التي تشكل خطراً على الصحافة والمارين من حولها “حسب ما أفاد البعض” يوجد كرم أهل فلسطين، رائحة المارمية التي ستشمها في كل “الزواريب” وضحكات الأطفال التي إن استطعت تمييزها ستتشكل على اثرها خارطة فلسطين.

سترى في الأم الفلسطينية، وطن، وفي أبنائها، قرى متلاصقة لا تفرق بينها إلا بالمظهر لا بالتفاصيل.

الهم واحد هناك، حق العودة.. لا أحد يرغب أن يستقر في بيوت مكتظة ومتراصة جداً حد الذي يجعلك وبكل بساطة تسمع بكاء أم أحمد ليلاً لأن زوجها أهملها في سبيل دردشة فيسبوكية!

وقد ترى من المتطرفين دينياً وأخلاقياً بعدد شعيرات رأسك وأكثر، لكن الخير هو الذي يعم، ولأنك صاحب خير.. فسيطال الله لك من هم مثلك ليستقبلوك كما استقبلت قضيتهم يوماً في ضميرك!

ستدرك على الفور، أن المراحل العمرية التي يعيشها أبناء الكوكب اللعين هذا، لا يعترف بها في “الحلوة” الابن الذي يولد بكراً هو أباً وسنداً منذ يومه الأول، والفتاة التي تولد بكراً هي أماً وسنداً منذ يومها الأول.

الكل هناك يدفع الثمن كثيراً، وصعوبة الوصول إلى تعليم عال ونظيف يصعب المسألة قليلاً في التفريق بين العادات والتقاليد والأحكام الدينية.

قد تجد من يعارض طريقك إن كانت بجانبك “امرأة مفرعة” وقد تجد من ينصحك أن “تستر عليها” أو في بعض الأحيان، يتقدم لخطبتها!

كل شيء متداخل، وكل الأشياء تحدث هناك سريعاً بلا تفكير في الغد، لأن رب اليوم والغد هو واحد!

تماماً، هذه الفكرة التي كانت تسندهم منذ نزوحهم الأول “يومين وبنرجع”.. وصار اليومين سنين كتير ونحن ناطرين لنرجع، ومرجعناش ياحلوة!

 

فتش عن إنسانيتك

” تعا ع المخيم لتشوف إنسانيتك”

أحياناً كثيرة يلعب المكان كما الزمان دوراً كبيراً وجديداً في بروز إنسانيتنا.

قد نقبل ما لم نتخيله، وقد نرفض ما كنا يوماً مستعدين لتخيل أنفسنا به، كل شيء قد يتبدل في اللحظة التي تستيقظ فيها الإنسانية في داخل كل إنسان منا.

لكن عين الحلوة، تلك البقعة التي تحيطها من كل الجهات معاناة لا يستطيع المرء أن يتخيلها أبداً، تستطيع بكل بساطة أن تحدد مدى عمق إنسانيتك من خارج أسوارها.. من ذلك الحاجز الذي يحد عن يمينه وشماله صفاً من السيارات التي تنتظر نهارها تحت حرارة الشمس وعطل المكيفات لتتمكن من الوصول إلى نقطة الرجل العسكري، “هويتك إزا بتريد”.. عبارة يحفظها أهل المخيم أكثر من حفظهم لأسماء أبنائهم أو أسمائهم الشخصية إن أردنا الوصف بإنصاف!

عبارة، لا يستطيع أن تمضي يومك إلا بسماعها، ربما يكون ذلك للعالم نقطة  ايجابية لصالح الحكومة اللبنانية لكنها في أرض الواقع، ماهي إلا عقبة على شعب “تعتر جوى وبرى”.

تخيل أن تمنع من دخول باب بيتك بلا إذن مسبق من جيرانك مثلاً، الأمر مقزز بالفعل!

صحيح، أن المخيم يحمل الكثير من التفاصيل المنهكة والسلبيات التي شوهت من جمال شعبه حد تفككه بين الأحزاب، إلا أنه يجتمع في نهاية الأمر تحت الهم الفلسطيني، هم العودة، وهم الكرامة التي فقدتها عائلاتنا في الداخل.

لا عمل للفلسطيني، ولا تمليك له.. بالرغم من أنه يريد العودة لأرضه، لا حتى جوازات سفر تساعده على التنقل بحرية أكبر.

كلها سياسات، وكلها في مصلحة الشعب الفلسطيني تفرقت!

حتى أصبح الموت أسهل مايكون لديهم، تمرض فتدخل المستشفى فتعجز عن الدفع ثم تتمدد على السرير حيث أصوات المارة تثير فضولك للتنصت، وتدفن حيث أنت، لا فاتورة تم دفعها ولا ورقة دفن تمكن ذويك من استخراجها.

لا إكرام للإنسان الفلسطيني ميتاً كان أم حياً داخل مخيم عين الحلوة، السبب قد تعرفه من قطة مارة أو كلب شارد ضال، قد تسمعه من الباعة في الشارع الفوقاني بسوق الخضار، أو من احدى الفتيات اللواتي تركن الدراسة مبكراً للإلتحاق بدورة تصفيف شعر لمساعدة أهلها.

قد ترى الاجابة من غير أن تنطق سؤالك، بين أعين الفتاة الشقراء التي قد لا يتجاوز فرق العمر بينها وبين أمها بضعة سنوات، أو برائحة العرق من جارك الذي ندم لاحقاً على “خلفته” التي لم تأتي إليه إلا بأوتار صوتية جبارة من زوجته كل صباح.

كل شيء مكشوف هناك، كل شيء واضح لا يحتاج إلى بحث كي تستخرج منه ماتريد، حتى أسلاك الكهرباء.. أينما مشيت ستجدها فوقك، حتى في “الزواريب” والأزقة الضيقة جداً، ستجد لك إجابة لكل سؤال سيخطر في بالك، لأن بحثك عن إجابة لن يتطلب منك إلا تأمل كل ما حولك ومن حولك.

في تلك البقعة، التي اشترت للفلسطينيين ببضع أوراق وتوقيعات، وتركت لهم ليدفعوا ثمنها بأنفسهم إلى اليوم..

ستتمكن أن تتعرف على حجم انسانيتك.. وتستسلم في نهاية الأمر للعجز الذي سيلحق بك!