قصاصة من ورقة إغتراب.. ولاجئة فلسطينية في المياه المالحة!

 

 

زاد تعلقي وحبي الشديد لوطني الذي خلقت وملامحه ملصقة على جسدي عقب الحرب الأخيرة التي طالت قطاع غزة..

للإعلام قدرة عجيبة بإقناعك  أن طعم التفاح مر جداً وأن البرتقاله التي تراها ماهي إلا بطيخ أصفر نسميه في بلادنا “شمام”، وأن نظرك المضطرب هو السبب  في عدم التعرف على تلك الفواكه، فشوهت الحقيقة، أنت مجرد لعبة، يحركونها بأيديهم كيفما أرادوا!

 

يخبرني زميلي الصحفي والذي يقبع في احد مناطق العالم المنعزلة (غزة) عن تعلقه الشديد بالتواصل مع أبناء جالية بلده في الخارج، يحاول أن يهرب من فكرة الانقسامات التي طالت بقعته وانغمرت حتى تطبعت على جثث الشهداء وقد زينت أكفانهم بأعلام حزبية ونسوا في المسيرات تلك وهم يهتفون بإسم الوطن أن يرفعوا علمه!

يتكرر المشهد، ويطغى لون الدم على كافة الأحزاب تلك..

ما أجمل لون الدماء في حضرة الأحزاب..علها وحدتنا يارجل!

زميلي الذي اختار النضال في شارع غير المظاهرات والهتاف..

يدفع عمره الجيد في العمل ليل نهار وينتهي الأمر بأن يداوي نصفه الآخر، أي نصف يصادفه، وإن لم يكن في الحقيقة على معرفة وطيدة به!

فلا يفكر بالزواج بعد مثل باقي الشباب في عمره، إنما أمله أن يشفي أولئك الذين لاينتمون لحزب، ولا تظهر أسمائهم في الشريط الاخباري ذو اللون الأحمر والمطبوع على إحدى جوانبه بالأسود كلمة (عاجل)..

لطالما كانوا مهمشين.. وسيصبحون في خبر كان !

يقول لي وقد أبكاني حديثه جداً: ” تخيلي أني قد أمضيت عشرة أعوام من حياتي محاولاً لنسيان أربعة حروب خسرت فيها ثقتي.. خسرت فيها الله!”

كان يبكي باعترافاته تلك، وكأنه يتلو على مسامعي قصص لاحد الروائيين الذين يسلطون الضوء على أبطال من هامش هذا العالم اللعين..

في المقابل ها أنا منذ عدة أيام أنتظر أن أستلم طرد بعثه لي أحد الكتاب من مناطق الـ 48 في فلسطين المحتلة..

ننتظر الموافقة من السلطات الاسرائيلية..

ترى هل سينطقون اسمي المطبوع على الطرد بشكل صحيح؟

هنادي أم.. سأصبح  فجأة خناديي!

هل سيرمون بالعلبة البلاستيكية التي تضم رمالاً من صفد؟

وعدني صديق آخر أن يرسل لي علبة من بحر غزة أيضاً..

متشوقة جداً لأن أبني فلسطين خاصة لي في غربتي..

أعلم أنه سينقصها وطن، فالأشياء الرمزية تلك لا تشفي قلبي من مطالبه في وطن حرمت منه..

مؤلمة جداً قصتي وأنا أخبر الجميع أنني أستلم طرود بها فتات من وطني، انتظر الموافقة من السلطات الاسرائيلية لأحظى بها.

الأكثر إيلاماً رسالتي الالكترونية للأنروا وأنا أسألهم ماهي حقوقي كلاجئة خلقت في الخارج؟ ليجيبوني  أن ” مؤهلاتي وصفاتي” لا تتناسب مع الحقوق التي يمنحونها للاجئين!

ألا تكفي الوثيقة؟

ما أبعد خذلانكم عن الوطن.. ما أبعده عن وطنيتكم!

أذكر جيداً كيف أجابني صديقي الغزي الآخر  والذي سافر لبعثه دراسية  في فرنسا يوم سألته ما الذي ينقصك في غربتك؟ في محاولة لأن أخفف عنه غربته.. أنا التي ذقت مر الغربتين، تغريبتنا الأولى إلى لبنان والثانية في غربتنا إلى المياه المالحة..

أجابني: مارمية.. انتهت وأحتاج إلى كمية منها..

أتتني الجرأة لأن أكسر عادات بلادي قليلاً..

وأتحول إلى رجل يشبه ذلك الذي يعصب عيناه جيداً بالكوفية، لا تبرز من ملامح وجهه وتفاصيل جسده إلا عروقه الزرقاء..

قررت أن أؤدي هذه المهمة حيث كانت جارتي المقدسية قد جلبت لي ما يفيض عن حاجتي من المارمية..

بعثت بالكمية كلها إليه، عانت جداً تلك المسكينة – المارمية- قبل أن تصل!

فقد مكثت في الجمارك الفرنسية على نحو أسبوعان وقد علمت بعدها أن المارمية التي يدمن الشعب الفلسطيني شربها مع الشاي الأحمر من الممكن أن يتم حرقها واستخدماها كمخدر مهلوس!

أدركت فعلاً مدى تأثيرها..

ادماننا لها وادمانها لأرضنا التي تخلو من كل الأشياء، إلا منها..

كل المغتربون يشتهون طعام أمهاتهم، لمة العائلة قبل المغرب، اصوات الصغار في الحارة، ومباريات كرة القدم التي لا توقيت ولا حدود مرمى لها..

إلا المغترب الفلسطيني..

مهموم بتفاصيل حكايته.. قد يكون الهم في الحصول على حفنة من المارمية بعض الأحيان!

أذكر جيداً صوت أحد قادة السلطة الذي يقيم خارج ارض الوطن ويعمل في إحدى سفاراته، وقد عرف بلقب “رئيس لجنة شؤون اللاجئين الفلسطينيين” وهو يتهرب من كل ما له صلة بكلمة فلسطين.

يغرق كثيراً في بحر جلسات التصوير والمقابلات التي يرفع فيها نظارته.. ربطة عنقه، وهو يقول: “نحن أصحاب قضية، نريد أن نعطي الطرفان حقهما، ولا يهمنا المستعربون منا، بعيدة الأرض عن أصحابها..”

مات أصحاب الأرض الأوفياء ياسيدي!

 

*الصورة المرفقة بعدسة المصورة: فاطمة برو – لبنان 16 أغسطس2015.

فلسطينية ذويقة للزيتون

 

لطالما شاهدتها تحرص على اعطاء ملاحظات علنية لنساء العائلة حول كيفية اقتناء الزيتون، والطعم الأصلي الذي من المفترض أن يكون عليه ليتأكدن أن الزيتون من بلادنا البعيدة.

جدتي في موسم الزيتون!

تسرد لي دائماً قصتها مع جدي الذي كان يكبرها بنحو عشرين عاماً، وقد كان قريبها قبل أي شيء..

“ازا برجع عفلسطين بخبركم كل كروم زيتون لدار مين، بعدني حافظة تعون دارنا ودار خالي أبو جدك الله يرحمه”

خرجت من فلسطين لشهر عسل بعد زيجتها وهي ابنة الأربعة عشر عاماً، تقول دائماً بأن خروجها الى لبنان كان بمثابة شهر عسل ولكن جمع معها فلسطين بأكملها، “طلعت شهر عسل وأخدت فلسطين كلها معي”.

تخبرني عن حكاوي تحويش محاصيل الزيتون الموسمية، تناوبها هي وجدي للذهاب إلى بساتين لبنان في الجنوب، رغم الشتات واللجوء، واجتياحات تكررت كثيراً طالت الفلسطنيون واللبنانيون على حد سواء، كلاهما كانا ضحية لكراهية الطرف الآخر، ولأن جدتي صفدية، لم تتخلى عن غرس فلسطين في بقاع عين الحلوة، فمن التين والعنب والتوت والمشمش كانت فلسطين حاضرة طيلة سبعة وستون  عاماً في أكبر مخيمات لبنان.

انجبت جدتي فيهن من الأبناء احد عشر، وحصدت من أحفاد الأحفاد عائلة ضخمة يزيد عدد أفرادها عن الخمسين، شاخت الأشجار، وعلى فقدان جدي كبير العائلة حزنت حتى تيبست أضلعها، الا التين، وعادة تحويش الزيتون وتحويله من عجر إلى مكبوس.. حامض وحار وحلو، وشهي حد فلسطين التي لم تمحى داخل جدران منزل كبر وبين زواياه.. بقيت فلسطين في الغربة حاضرة!

مازلت جدتي وهي ابنة التسعون عاما تذكر فلسطين كثيرا، تبكي عندما تسمع عتابات ابو عرب، وتسرح بعد ان تتذكر كيف خرجت من بيتها والجميع من حولها يؤكدون لها ان خروجهم ماهو الا حل مؤقت، وان العودة بعد يومان فقط..

لم ينتهي اليومان بعد، ولا احد يعلم متى تأتي الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل ليأذن الله أن يدفن الفلسطينيون اللاجئون في أرضهم!

جدتي التي لم تلحق بمدارس الرأس الأحمر، تعلم جيداً أن فلسطين تعني وطن، وأننا لوطننا لراجعون.

تقص علي العديد من الحكاوي، لأعدها بأنني سأدونها يوماً، كانت ترفض الفكرة، وبعد أن تيقنت أن ماتبقى لنا من بلادنا البعيدة مجرد حكاوي- نحن أصحاب الوثائق- ابتسمت، لتعطني الضوء الأخضر كي أكتب.. وأشرح لما لم يسقط بعد غصن الزيتون من أيدينا!

 

جدتي.. من النساء الفلسطينيات الذويقات للزيتون!

 

*الصورة المرفقة بعدسة الفنانة التشكيلية: مريم غانم – لبنان -عيناتا 2015.

ما أكبر سوريا في عين الحلوة

مدخل: “يا مال الشام يا الله يا مالي

طال المطال ياحلوة تعالي

يا مال الشام على بالي هواك

أحلى زمان قضيتو معاك

يا مال الشام على بالي هواك

أحلى زمان قضيتو معاك”

 

السوريين في لبنان، لا أدرك كم من نتائج البحث والمواضيع المؤرشفة التي ستظهر لي إن جربت واستخدمت يوماً تلك الكلمتين الملتصقتين في محرك البحث “جوجل”. لطالما كان الأمر معقداً، حاملاً لعدد من علامات الاستفهام والتساؤل.. إلا في عين الحلوة، كل شيء كان يختلف في تلك البقعة الضيقة!

الأرض الحاملة لمعنى الضيافة والكرم العربي بطريقة لن يصدقها إلا من زارها يوماً..

هناك، حيث يعيش الفلسطينيون فوق بعضهم البعض في بيوت متلاصقة حد إختفاء خصوصية الأسر فيه، كانت الأبواب دائماً مرحبة بالسائلين، المحتاجين..والنازحين!

رغم أن الأمر ذو حدين، فعندما كانت الحلوة مضيافة للتجار السوريين والمشترين اللبنانيين، كان هناك دوماً من يريد أن يحدث زوبعة، أن ينقل فتنة الاتفاقيات التي وقع عليها من هم أكبر منا.. لنتذمر وأخيراً من فتات وحدتنا العربية في بقعة لن تفقد فيها ملامحك أبداً.. لأن عين الحلوة لا تنسى أولئك الذين يحبون فلسطين التي بها.

أتساءل الآن بعد أن غبت نحو ثمانية سنوات عن ذلك المكان، كيف أصبح؟

وهل مازال الحاج أبو أحمد يأتي من سوريا صباحاً ليبيع الفواكه والخضراوات؟

هل لازال هناك فواكه وخضراوات تزرع؟ أم أنه  اتجه هذه المرة للاسترزاق ببيع شراب الجلاب والمكسرات؟

 

جميلة كانت عين الحلوة حين توجهت إليها أنظار اللبنانيون في حروبهم السابقة وخاصة الحرب الأخيرة عام 2006 التي فتحت مدن العالم أبوابهم لضم الإنسان اللبناني أيا كانت طائفته..

ومؤسف هو الحال الذي يستقبل فيه الفلسطيني وأخيه السوري على حد سواء..

عين الحلوة التي لم تيأس رغم تكاثر الفتن من حولها، ها هي من جديد تستقبل السوريين..واللبنانيين وكل من رفع شارة النصر باتجاه الله مردداً..

“على هذه الأرض ما يستحق الحياة”

 

*** 

آه لو بإستطاعة القارىء أن يستنشق عبق الذكريات التي يكشفها القلم بأحرف متجردة من كل شيء إلا من كلمات تغنى بها أبناء الوطن العربي والعالم لياسمين الشام لسوريانا، ومع ذلك لم يوفها أحد حقها من جمال عيناها الخضراوتان أو نمش وجهها الذي يحكي تفاصيل شعب من فرط طيبته ظلم نفسه.

سوريا، هي الدولة التي احتضنت بعاداتها وتقاليدها، ببساطتها وتحضرها، بفلاحينها وأطبائها، هي مزيج من هذا وذاك، من العصرية والقدم..

هي عاصمة كل الدول، وكل الدول مع أول نداء استغاثة .. فرطت بها..

هي التي من قطرات الندى تحكي قصة عاشقان التقيا في صباح دمشقي على أنغام فيروز.. “أديش كان في ناس ع المفرق تنطر ناس وتشتي الدني..”

هي التي تشتم بين جدرانها هموم المارة بها، لا تستهن الشام بمن فيها وبمن عبروها، هي الذكريات الجميلة والمؤلمة، في ذاكرة السلام

أعطت لأبنائها أكثر مما تمنوا، أكرمت ضيوفهم، وتحاملت على نفسها حتى حاولوا التخلص منها لشدة فرط بياضها الذي  طمع به الغرباء..

وبدؤوا خطتهم من الجذور..ببتر الساق..

حتى أصبحت سوريانا مقعدة، تكافح بيديها التي لا يمكن أن تصفق بمفردها، وتنوح بين الدعاء والآخر، على جميل نكره أقرب الأقربون إليها..

 

مخرج: “ودعتيني وعاهدتيني

لا تنسيني ولا أنساك

مهما تغيبي سنين وليالي

طال المطال طال وطول

لا بيتغير ولا بيتحول

مشتاق ليك يانور عيوني

حتى نعيد الزمن الأول

يلا تعالي كفاك تعالي”