حراس الذاكرة الفلسطينية

كانت جدتي بطلة ذكرياتها دون منازع. في الوقت الذي كنت أشعر فيه أن حياتي لم تعد شيئًا لذيذًا سهلاً علي أن أعيشه بهدوء، وجدتني أتصل بها وأسألها المزيد من التفاصيل.

علا صوتي في أحيان كثيرة لأنه لم يكن بإستطاعتي الكتمان أكثر، ولم أكن أعلم أبدًا أن فتاة صغيرة في مثل سني لا يمكن أن تحمل الإجابات على تساؤلاتها المعقدة، حتى كبرت… وفهمت وحدي.

كنت أسير في كل مرة عبر الطرقات الموجودة في حكايات جدتي. رمتنا الأرض خارج أرضها وفي صيدا صرنا لاجئين، كانت عائلتي موجودة في مخيم له شكل غير مألوف في بادىء الأمر. وعندما كنت أبتعد عن الدار كنت أبتعد عن طفولتي في الوقت ذاته، لتصبح أصابع الذين أحبهم لا تقشر البرتقال. الأرض حيث كل بقعة تحمل في داخلها قبرًا للملايين من الناس الذين قتلوا أو هجروا تاركين خلفهم الكثير من رائحة الدمار الخانقة. غابت جذورهم تحت التراب لكنها لم تختفي إلى الأبد. الرصاص صار ذكرياتنا اليومية، نيران المخيمات لم تزل تحترق. وهذا التاريخ كنا نتعلمه، فهل كان من السهل حقًا أن ننزل من فوق الحائط؟

لكني وجدت روحي في تلك الأماكن التي لم أستطع شم روائحها قط، والليل لا يجد فيها النهار. استمعت إلى الصلوات التي تقام حتى هذه الساعة هناك. ومن ثم سرت لمدة سبعون عامًا بإتجاه الشمال، حيث عكا والكثير من البشر البسطاء. شاركتهم خبزهم في وجبات الطعام، جلست على أرضية المساجد حيث الغرباء المحترمون. رأيت امرأة شابة ليس لديها طريقة أو وسيلة لتذهب إلى أي مكان، بلا تعليم ولا تسلية ولا حتى مكان تعيش فيه، ومع ذلك لم تفقد الشعور بالأمان للحظة واحدة.

تمتمت باسم الله عن الذي لا أعرفه حول هذه الأرض وهذا الشعب. كل شيء كان عظيمًا، لكني لماذا منذ وهلة بكيث!

أردت حقًا العودة إلى بلدي، ولكن في نفس الوقت كنت أعرف أنه لا يمكنني الذهاب إلى هناك. لأنه لا يوجد مكان لي.  يومًا بعد يوم، صرت أستمع إلى الأخبار، وأتابع ما يحدث بعيدًا في داخلها هناك، فيتحطم قلبي أكثر، لأن الأخبار كانت تحبطني كالعادة.  كان قلبي ينبض لشعبي، ولكني لم أعرف ما الذي يجب أن أفعله.

حتى تعلمت بمرارة أن هجرتنا لم تكن النهاية، وأن اللجوء لم يعني يومًا انشقاقنا عن تاريخنا وأهلنا وعاداتنا وتقاليدنا العربية الفلسطينية الأصيلة.

أيقنت أن للوطن واجب وحق علينا، وأن لدينا أمانة يجب أن نؤديها من خلال أبنائنا. أدركت أن بيوتنا وأزقتنا وشوارعنا الفلسطينية التي تركناها خلفنا، لم تعني لنا يومًا اليأس، وفقدان الأمل. وأن صوت زغاريط النسوة المختلط بصوت الرصاص، ما بين الرعب والصراخ، يولد فرح ما بطريقته الخاصة.

بل وفهمت أن ما يحدث هنا لابد أن يصل صداه هناك حتى تكون العودة إلى فلسطيننا وفي يدنا ما يعمرها ويفيدها.

وبعد أن مات الكبار ولم ينسى الصغار وهم يعيشون داخل فلسطين في مخيمات الجوار، تسائلت كيف لشبابنا الجديد أن ينسى بلدهم المحتل وهم يستيقظون كل صباح على رائحة الزيت والزعتر وتوارث العادات الفلسطينية بما فيها من عادات وتقاليد ولباس ولهجة، وهي تذكر بفلسطين وتاريخها النضالي.

نحن لهذه الأرض كنا ولهذه الأرض مازلنا وإنا إليها لراجعون.

وكما يفعل العاشق برسائل حبيبته القديمة، يشمها ويقبلها ومهما مر الوقت لا ينسى شكل الأحرف عندما ارتعشت شفتاه اثر قرائتها.

هكذا نقول بأننا فلسطينيون.

 

عالقون داخل الرقم 48

 

أقطع هذا الطريق الطويل إليك وحدي بالأحرف الكبيرة والشكل البذيء لجدران حينا الفقير .

أنا لا أثق بالهدوء الذي أعيشه مطلقًا، أسمع بحة صوتي على الورق وتزدحم الأمور السيئة التي تقضم أطراف أصابعي.

صار يشبه وجهي كل شيء يمر أمام الباب.

ما الذي يحدث تحت السرير؟

كلها أشياء لا يمكنني العثور على إجابات شافية لها، ولا يمكن لمرة أن تكون الأولى مرتين.

أخاف من نفسي ومن الآخرين وهم يعبرون منشغلين بأشيائهم، ولا تبدو عليهم أي علامات غير مألوفة.

أخاف من القدرة العجيبة على الاعتياد، كما لو أن الحياة الآن كما هي بصورتها الطبيعية والناس يعيشونها دون أن يتغير شيء، التعايش مع أكثر الأحداث قسوة.

كأنني أشاهد فيلمًا صامتًا لا يحمل الألوان وكل الليل المتأخر انقلب فجأة إلى ظهيرة.

من أين خرج ذلك الصوت كله؟

حسنًا، لا أدري كيف سأتذكر هذه الأيام في المستقبل؟

في الصف الطويل أنا المغتربة التي تقف أمامك الآن أول الصف، امرأة لا تتذكر سببًا واحدًا لوجودها هنا وانتظارها ليشرح لها أحدهم كيف أصبحت فجأة لاجئة كل هذه المدة ولا تجرؤ على القفز منذ سنوات إلى الجهة الأخرى.

كيف يمكنني التخلص من سؤالي البسيط حين أراه متعبًا؟

 

أنا منشغلة الآن بمراقبتك عبر التلفاز، يعقدون حولك مؤتمرًا صحافيًا ويعلنون فيه انتصارك بينما تربكني حولك أسئلة الصحافيين الفضوليين.

أشعر أنك تخاطبني في كل ما تقول أو تتعمد أن تسمعني كلامك.

روحي تجوب أزقتك وأحلامي جميعها أكبر مني، بينما يغلق باب الدار خلفي، يتملكني ذلك الشعور القديم بالخوف.

لقد منحت لقلبي وطنًا، ما كنت لأتمكن من كتابة هذه السطور بدون حبك، لكني متعبة وأسير ببطء، خلفك تمامًا!

أقف على عتبة الدهشة طويلاً وأستيقظ محمله بكل الأحلام السريعة والعاجلة مرة أخرى.

أحاول أن أتحسس طريقي بحذر وأتحدث مع رأسي عن الحياة الجميلة في الخارج، أحاول جمع نفس طويل، لكنه يتقطع.

صارت الأشياء تحرك نفسها  من أمامي، إنني وأنا فيك أقف أيضًا أمام الباب محاولة الدخول إليك، لي أطرافًا لا تحتمل ثقلي ولم يأتي أحد ليأخذ بيدي من أي مكان .

أعتقد أني انتهيت.

هل يمكنني البكاء؟

 

 

 

الذهاب إلى عين الحلوة

حاجز عابس.. بل أكثر من واحد، يقف أمامي الآن، يعيق حركتي، يصعب طريقي والوقت قد توقف في جهات أربع تطوق بقعة ضوء لا أسماء حقيقية لها، لا ملامح واضحة عليها، ولا حدود لذلك الوطن سوى جدار اسمنتي يصل السماء وتقوم أساساته على الأرواح المعذبة في تلك الزاوية المعتمة من العالم الضخم.

هل تراها مثلما تفعل عيني؟ بكل خرابها.. دمارها.. بؤسها.. وحزن الأفكار التي تكبر معها، حلوة!

الجميع هناك يصنع كل صباح وجه واحد، ستعتاد عليه بعد المرة الأولى لك، ثم ستصبح أول من يشعر بالغرابة إن تبدلت الملامح.

الكل له وجه واحد ” أنا لست جيدًا في الحياة”.

أما عني، كنت هناك وأعرف منذ أشهري الستة في الحياة أنني لست منهم. أني سلسلة من الفضوليين التي تستمر بالسؤال وفقط عن حل لجميع أوضاع اللاجئين هناك، هنا، وفي كل مكان مخبىء من أطراف المدن الكبيرة.

وعرفت بالمثل أن الدخول إلى عين الحلوة لا يشبه رحلة الخروج منها.

عين الحلوة.. وما أدراك ما عين الحلوة؟ أتمنى لو بإمكاننا أن نكون غريبين مجددًا!

لم أمكث طويلًا، كانت زيارات سريعة، لطالما أثار ذلك المكان اهتمامي، أحببت رائحة الوطن التي لم تنفذ مع “طول الزيارة”.

دفعتني الأشياء المبعثرة، المشاهد الغير طبيعية والتي تمارس بشكل علني وروتيني أن أحفظها في داخلي، وكأنها جزئي المفضل من الحياة.

الجزء الذي كبر معي ويشاركني حياتي الخاصة منذ فترة طويلة.

علمت لاحقًا أنه قوتي، أو سببًا لها.

ترى، هل أحببت الواقع حقًا؟ هل كنت أراه بصورته الطبيعية؟ أم أن حبي للكلمات دفعني لإستخدامها في الأماكن الغير مناسبة لوصف وضع غير محتمل؟

لماذا يبدو كل شيء يسري كما لو أنه جزءًا من دائرة متقنة بينما لا شيء منطقي؟ لا شيء يحدث دون ألم!

ومع هذا لم أكن لأجد أبدًا من يصرخ طالبًا النجدة.

ربما أن الأدمغة هناك لا تملك قابلية الوصول إلى العالم، أو أنهم في موعد مع فكرة ما وليس مع آخرين مثلي.

لحظة واحدة..

أنا أيضًا أواعد أفكارًا أخرى، لكني أريد فكرتهم..

إذن، هل يبدو الأمر مثيرًا للإهتمام؟

لا أدري، ممكن.. والله أعلم.

لا معنى لهذا كله، لأنه قد يعني الآن أي شي.

إلى عينيكِ يا حلوة

مخيم عين الحلوة من سطح دار جدتي.

إلى التي زرعت وطنًا في مخيم مهترىء..أحبكِ!

 

ليال كثيرة قد مضت، غابت الشمس أكثر من مرة، نام الجميع تسع مرات، عددتها! ولم يكن بإستطاعتي بعد أن أستجمع قواي وأراسلك..

اللعنة يا تاتا!

انقسم المخيم..

وها هو الجدار يرتفع شيئًا فشيئًا حتى يستيقظ النيام ذات صباح ويدركوا أن ضوء السماء ما عاد يصل أسقف الزينكو البسيطة تلك – كانت يومًا تحميكم من الغرق-، لقد حجبوا عنكم الحياة!

ولا تسأليني، لو كنت أدرك من هم حقًا لأخبرتك، لكني والله لا أعلم..

صدقيني هذه المرة فقط.

كانت قد وصلتني الأخبار حول وعكتك الصحية الأخيرة، وكنت قد طلبت أن أسمع أنفاسك البطيئة، لكن الأجهزة التي أعادتك للحياة فصلت بيننا هذه المرة، في تلك اللحظة لم أغضب، كنت يقينة من أنك ستعوضيني عنها آلاف المرات فيما بعد.

الأخبار السيئة تلاحقني من كل مكان مع نهاية العام، ولتعرفي الآن أنني أخشى عليكِ منها.

أرى أن المخيم ما عاد قويًا، ما الذي يحل بشعب الخيام؟

ولأنني أحببت المخيم بعدد السنون التي أخبرتني فيها، عن اللحظات الكثيرة التي استغرقتها لتنقلي وطنًا بأكمله في خيمة واحدة، أطلب منكِ ألا تفلتي يدي الآن.

الأمور لا تبدو على ما يرام، وأنا لا أريد أن يمحى كل شيء دفعة واحدة.

ماذا لو أخذتني أقدامي إلى هناك مجددًا؟

كنا قد اتفقنا أن حكاويكِ من ستدلني للتعرف على أماكن الأشياء..

ما الذي تبقى لنا الآن؟

حواجز من الجهات الأربع

وجدار

هذا كل شي!

-هاتي يدك-.

من في عين الحلوة؟

 

من في عين الحلوة إلا .. لا أحد!

صدقاً، لا أحد هناك.. فقط لا أحد

لا قطة ضالة، لا صوت عواء لكلب يحتضر

لا زجاج تفتت في شجار شبابي وبقي ليجرح أقدام الأطفال

لا روائح نفايات هنا وهناك

لا زواريب قد لا تحمل أطرافك الزائدة وتعلق في منتصفها يوم قررت أن تخاطر لتعبر إلى الضفة الأخرى!

لا حواجز تسألك عن هويتك، لأنها مطبوعة في طرف ياقتك “الممزوعة” وفي جيبك الواسع الذي لا يحتضن سوى عشرة آلاف ليرة، أجرة يومك، بعد أن نسيت أن هناك حياة في الخارج، أصبحت تمسك بها كل مساء وأنت تقبل بلاط منزلك، شاكراً الله، متمتماً: الحمدلله- طعميتنا من خيرك، لا تعوزنا لغيرك-.

تنظر إلى زوجتك التي لا تستطيع أن تعرف كم بحراً يحد أطراف بقعتها، ولا هيبة صخرة الروشة التي تراها على التلفاز تارة وفي بطاقات بريدية تارة أخرى، “حرمت” أن تخاطر على الحاجز مجدداً، يوم مسكت يدها وأخبرتها أن الله هنا، نامت بعدها ليلة كاملة في غرفة كلها أسود، وبابها من قضبان حديدية.

كانت تئن الليل بطوله وهي تردد بصوت يكاد أن يكون همساً: الله الله تعال بسرعة، الغرفة باردة، ونسيت جواربي في المخيم.

يسألها المحقق صباحاً: لماذا لا تملكين هوية؟

  • لا أعرف، كانت لدي أوراق، صورة عنها، منذ أعوام كانت تحمني وكنت لا أتحملها، اليوم لا تحمني، وعلي أن اتحمل أنها لا تفعل وأني في صراع، وأنني لا هوية لي، وأنني لا وطن يحميني، وأننا لا مكان لنا!

 

أذكر جيداً الدمعات التي هربت سريعاً من ختيار يقطن في “الشارع الفوقاني” وهو يدفع بأبنائه واحداً تلو الآخر للهجرة إلى ألمانيا، أذكر كيف شهق في محاولة منه لأن لا يبكي على طرف الهاتف وهو يردد: الله معك يا ابني، ناطرينك طول العمر.

يغلق الهاتف ليدخل في نوبة بكاء، يبكي كل ما يحيط به إلا الوطن، والوطنيون، والمواطنون، وعلى رأسهم، المرأة التي نسيت جواربها في المخيم، فماتت من البرد، وهي تفكر ما الذي ستجيبه إذما سألها غريب: من أنتِ؟ من أين أتيتِ؟ حسناً..فقط ارحلي!

  • إلى أين؟
  • إلى البقعة التي لا ترفضك..
  • العالم لم يحبنا (تصرخ) ثم تقع أرضاً، وفجأة: تموت!

 

تأتني جدتي من بقعة بعيدة جداً، تجلس بجواري، تارة أقبل كفها وتارة أحتضنه وتارة أنظر إلى عينها، وأقول: لماذا خرجتم؟

يحضر صوت أمي من بعيد، تصيب في كلماتها والدتها – أي جدتي- ، وتتمتم: ليتكم متم، وراحت ملامحكم، واختفت اسمائكم، وأصبحتم أرقاماً، وأسطراً في كتاب تاريخ، ولم تخرجوا!

لقد خرجتم لتبحثوا لكم عن حياة، لتجدوا لأنفسكم سبباً لمحاولة العيش مجدداً، خمني ما الذي حدث؟

67 عاماً، أجيال تأتي وأخرى ترحل، تحفظ التاريخ جيداً، وأسماء الله الحسنى أيضاً، وتعرف أنها لا تريد أن يبقى الحال على ما هو عليه، جزء انتحر ، منهم من أصبح من الشهداء.. جزء هاجر وبنوا لأنفسهم وطناً آخر، وجزء في الداخل يصارع هوية البقاء، يوم يسألونهم في المدارس: ما عاصمة فلسطين؟

ليجيبوا وفقط: “القدس الشرقية”.

هم الوجع.. وحلم العودة من جديد!

أطفال عين الحلوة

مساحة ذابت ملامحها وتلاشت، تغيرت تماماً منذ أن زاد عدد ساكنيها إلى ثلاثة أضعاف.

بيوت فوق بعضها البعض، طوابق مكدسة عمرت فوق بنية لا تحمل من الضمير شيئاً ولا من وجعهم أشياء.

قد تسقط يوم تمل، دون سابق انذار، وبلا إشارات سماوية هذه المرة.

لا أحد يعلم متى، لكنهم يعلمون جيداً أنه ليس باليوم البعيد.

***

في مخيم عين الحلوة، وهو أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، تقام زفة العريس في شوارع متعرجة، لها ايقاعها الخاص ومن الفرحة الكثير من النصيب.

شهدت على روائح الأحزاب والطائفية والوجع الفلسطيني الموحد بالدماء وحلم العودة. في سطح المنازل، كل المنازل، أقيمت حفلات الخطوبة والزواج وزينت الأجواء أغاني على خطى فارس كرم ولكن بطابع ديني امتاز به أهل المخيم في كل المناسبات.

***

تلعن خالتي جارتنا التي تسرع في تشغيل (الشفاط) لسحب المياه فور عودة الكهرباء بالسلامة بعد غياب قد يدوم ساعات أو أياماً في معظم الأحيان..

أحياناً لا ينال الجميع من تلك المياه نصيبهم، نعود مجدداً إلى نقطة البنية التحتية، فهناك الكثير من البيوت التي عمرت بمساحة أنابيب مياه أعمق مما يجب أو أكثر ارتفاعاً من أن تكتفي من الماء الفائض كجارتنا، تجدها هي وأصحاب النصيب ينفضون بيوتاً بأكملها، ثم يصرخون “خلص الخزان، تكو الآزان! ”

***

في الشارع ترى مزيج من البراءة والرجولة.. بائع الخروب يمتلك بيتاً من ثلاثة طوابق – تقول جدتي أنه ينال حصته من الحزب الذي ينتمي إليه- فالخروب كما تعلمون؟، ما بيعمر بيت!

طفل آخر، ترك الدراسة باكراً، فارس الذي كان أصغر إخوته وأكثرهم تمرداً على الواقع المر الذي يحيط به كيفما تحرك.

ورث مهنة والده في صبغ البيوت، رسم لنفسه مستقبلاً، وورشة وعمال..وعروس! عروس لا تشبه من حوله من بنات المخيم، طبع تفاصيلها في رأسه، جسم هيفاء، شعر إليسا، دلع نانسي وذكاء نجوى كرم..

ارتطم في نهاية مخيلاته تلك بالحقيقة أن من أمامه لا يشبهن إلا الوجع وحلم العودة من جديد!

***

على فتحات الزواريب، أطفالاً بعمر الزهور، أضحوا باعة فجأة بصرخة من الوالدة حفظها الله لهم أو كسل من الوالد أطال الله بعمره ليعيشوه!

تجد في أحضانهم ما لذ وطاب، ترمس مع الحامض، فول مع الكمون، عنبر شي أخضر وشي أحمر، عرنوس ذرة مشوي أو مسلوق على كيف كيفك، وأرطال من بذر البطيخ الأحمر والأصفر!

طفولتهم عبارة عن أصوات عالية، ينادون بها للمارة كي يقتربوا، كي لا يعودوا محملين، فيحملوا فوق عاتقهم هم صراخ الأم وهم ضرب الأب وهم الغد.. هم الوجع وحلم العودة من جديد!

***

الفتيات هناك، قلما تجد من تكمل تعليمها، حيث تشرب الفتاة جرعات من اليأس عندما تفطم من ثدي أمها وهي ابنة العامين..

تلقن منذ الصغر درساً أن “ظل راجل ولا ظل حيطة” وتضرب حد الذي يزرق فيها جسدها إن فكرت أن تحظى بغير الذي اختاره الأهل لها..

تجدها محترفة كثيراً في شرب القهوة التركية بسكر إضافي، وإن سألت عن السبب فستسمع إجابة موحده “الحياة مرة..كمان القهوة نشربها مرة! ”

كل فتيات المخيم عملن في صالونات التجميل، ثم باعة لملابس الحريم.. كلهن كدوا كثيراً لأجل الحصول على عريس لقطة وهن في ربيعهن العشرين.. بعد أن فسخن خطوبتهن لثلاثة مرات فأكثر! ما أجمل سقف أحلامهن.. وما أقل حظوظهن..

***

“تبنتت” مصطلح سمعته مؤخراً من والدتي، يطلق على الفتاة التي فاق عمرها الخمسين ولم تتزوج بعد، لا أعلم من أين جاءت التسمية، لكنتي سألتها كثيراً

“وما المسمى الذي يطلق على الذكر في هذه الحالة؟” لم تجيبني أمي.. لأدرك أن المخيم مشبع بالفروق بين المتبنته والذكر.. وموحد بهم الوجع..وحلم العودة من جديد!

زواريب عين الحلوة..ألف قصة وقصة!

 

إن أكثر الأشياء التي تضيق في سكان تلك البقعة الغير معترف بها وبسكانها في كوكب الأرض، ليس ضيق المساحات وحسب، أو اكتظاظ السكان الذي أدى في نهاية الأمر إلى أن تسكن ثلاثة أجيال في منزل ذي حمام ومطبخ مشترك..

إنما تعقيدات العادات والتقاليد التي لم يعرف منها إلا العيب والحرام، ولم تحصر قوانينها إلا على الجنس اللطيف… ككل بقاع الأرض.

لكن المسألة هنا هو غياب المقاهي الداخلية، والمطاعم التي من الممكن أن يجلس فيها اثنان دون أن يسألهما ثالث ما صلة القرابة بينكما؟

كجارتنا دينا، كانت جميلة، بتفاصيل عربية أكثر من اللازم، وأكثر إخوتها عقلانية واتزان، مثل الكثير من الفتيات أحبت أن تخوض بعض التجارب قبل أن يتقدم لها أحدهم فيعلن أباها موافقته دون أن يسألها مجرد سؤال “مرتاحة؟”

سمعت ذات يوم صوت والدتها وهو يرتفع ثم يهدىء، يرتفع عندما ترفع يداها ويهدىء عندما تهبط على جسدها ليسمع المارة أنها “تربي” ابنتها حسب المفاهيم والأصول!

ذهبت إليها بعد أن عصرت عينها وبكت قدر استطاعتها، وسألتها: شو صار؟

اجابتها كانت منطقية بالنسبة لي، في بقعة تحكم فيها القبائلية والعادات والتقاليد أكثر من اللازم، وتحرم الفتاة من اكمال تعليمها، ففي المخيم  تنهي أغلب الفتيات التوجيهي لينتقلن بعد ذلك إلى تعلم إحدى المهن كالحياكة أو تصفيف الشعر في أغلب الوقت، والجزء القليل منهن يتجه إلى سبيلين أو في الحالات النادرة للجامعة اللبنانية كي يكملن أحلامهن..

دينا لم تكن من الفتيات اللواتي تخرجن حتى من مرحلة التوجيهي، بل توقفت عن التعليم لأنها رأت فيه صعوبة وفي نفسها العجز عن حفظ الكلمات ورصها بشكل صحيح في ورقة الاجابة بالاختبارات، وقررت أن تتعلم الحب، أن تكون أنثى قبل أن تفوح من ملابسها رائحة البصل لتؤكد أنها “ست بيت بحق وحقيق”

في إحدى الزواريب الملاصقة لبيتها، ومع تأكدها من غياب أبيها وأخيها، التقت بحسن، لم تتفوه بكلمة واكتفت بالنظر إلى عينه، وقبل بدوره يديها..ثم هرولت إلى الخلف لتعود الى منزلها.

أذكر كم كانت تلك القبلة تعني لها الكثير، وكم كرهت مسألة أن يذهب والدها لأمها ويشكو لها سوء تربية ابنتها، أن يعلن على الملأ أنها هي المخطئة وهي المذنبة وعليها وحدها فقط أن تتحمل ذنب الفضول الطفولي الذي اعتراها وهي ابنة الثلاثة عشر عاماً..

في تلك الزواريب، تجد في الخطوط الأولى من الفجر الكثير من القطط الضالة، في الصباح وبعد أذان الفجر قد تسمع طلقة من الرصاص فيصرخ المارة وهم يسحبون جثة أحدهم معلنين أنه شهيد، لا سبب في قتله سوى انه ينتمي الى تيار دون الآخر، أو أنه تفوه بكلمة في غير محلها!

في تلك الزواريب، الكثير من قبلات اليد والعنق..طبعت، والأسرار التي احتفظت بها الجدران لتهترء مع الزمن دون أن يعرف عنها أحد.

وهي الممرات نفسها التي مشيت فيها في زياراتي، وأنا أبحث عن اجابة لسؤالي:  راجعين؟

عند الإشتياق لا تكفيك الخطوط المدفوعة.. في مخيم لا تسمع به الأصوات جيداً

أن تكون أختي التي لم أحظى بمخالطتها إلا لعامين..

عامين من عمر بأكمله يعيش فيه جسدي بلا هوية، نصفي هنا والآخر مني هناك..حيث تكمن هي!

أذكر  يومنا الأخير بأرض وطنٍ لا يشبه من ملامحنا شيء، في بقعة تلتقي فيها كل الوجوه التي لا يشبه أحدها الآخر

ودعتها.. وفي يدها لعبة لعروسة من شواطىء هاواي الأمريكية..

رجفت شفتها العليا، حبست الدمع في عيني..ليبكي قلبي ليلتها

بكى قلبي كثيراً لأنني رحلت قبلها في إجازة لم أحسبها أنها ستطول، لأتصل بها، فيأبى أن يكون وداعنا الأخير عبر هاتف عتيق أسلاكه مكشوفة في مخيم لا تسمع به الأصوات جيداً

كل الأصوات في المخيم مكسورة، كصوتي وصوتها وسماعة الهاتف المهترئة

بكينا حتى احتضنتنا الكلمات، طبطبت على رأسي وهي تناديني.. 

لم أحدثها كثيراً، فعند الإشتياق لا تكفيك الخطوط المدفوعة

عند الإشتياق، لا تتحدث بتكنولوجيا تطلب منك مالاً مقابل كل ثانية، بل اتجه إلى أتعس الطرق لكي تحكي على الملأ معنى أن تكون لك أختاً.. تشبهك حد الذي يصدم المارة من حولك.. في النصف الآخر من العالم

سبع سنوات وأكثر، تتبادلا القبل والأحضان عبر زيارة الأم والأخت وهدايا متناقلة بين الطرفين

يحدث أن تلتقي العالم كله في ليلة.. وتمضي عمرك بحثاً عن وجه يشبهك

وجه أحببته لأنك رأيت ذاتك به

لأنك تريد أن ترى ذاتك به ليبقى فتات ثقتك بنفسك حياً

ما الذي فعلته الغربة بنا يا لمياء؟

حدثيني أنت عن المكان الذي لا يشبهك..

عن آخرون سرقوك مني وحرموني..لحظة أبكي فيها على كتفيك فتبكي معي حتى أهدأ

حدثيني عن عالم هاوي في تشتيتنا أكثر، في تغريبنا، نحن اللتان حرمة احدانا وطنها والأخرى حرمها الوطن من حبه

كيف لنا أن نلتقي بعد أن طول شعري كثيراً وكان قد حلف ذات مساء أن لا يطول إلا بعد أن تأتي لتصفيفه بيديك

كيف لنا أن نلتقي، وأصواتنا في ذلك الهاتف..فقدت الكثير من التفاصيل، حتى لا تبكي إحدانا،  فتعجز الأخرى عن احتضانها..

عين الحلوة تبكي شبابها المهاجر للبحث عن وطن

مرة قرابة الثمانية أعوام منذ أن التقيته آخر مرة، أسامة.. ذاك الشاب فاره الطول، ذو الابتسامة الخجولة وحركات الجسد التي تفضح قلة خبرته في التعامل مع النساء من حوله.

يشبه في طلته كافة شباب المخيم، بدءاً من بلوزة “الشباح” الذي يلبسها على الدوام لتبرز عرض كتفيه، وصولاً بالبنطال الذي يزين أطرافه السفلية بعضاً من الخيطان البيضاء، أحياناً تدل على الموضة وفي الكثير من الأحيان الأخر تدل على عمر السنوات التي تصادق فيه أسامة مع بنطاله دون أن يشتكيه أو يعرضه على أحد لتجميل أطرافه.

كان راضياً وقنوع، ولم يبدو عليه أبداً الطموح والجرأة التي أوصلته إلى ايطاليا عبر البحر، البحر ذاته الذي ابتلع ساجد بعد الحرب على غزة، وهو ذاته الذي لم يشبع من دم الفلسطينيين في محيطه وبقاعه، بل بات متعطشاً كلما شم على بعد أمتار رائحة الدم المنبعثة من تفاصيلهم كافة.

كان وفير الحظ، على غير عادة، استطاع أن يصل حيث أراد وان كانت الهجرة الغير شرعية هي المنفذ الوحيد ليكون ولو لمرة في حياته ابن المخيم الذي سيقص على الملأ قصته، ربما لم يكن فالحاً في الكتابة، أو في الحديث، لكن الفلسطيني يكفيه أن يبكي مرة أو يصرخ على الهاتف حنيناً وهو يردد “كيفك يابا كيفك يما” ليعرف المارة أن لهذه النبرة..الكثير من الحكايات والقصص!

 

أتذكر كم من مرة وبخته على جلوسه الطويل أمام عتبت منزل جدتي، أو صوته المرتفع وهو يتجادل مع والدته في المسألة ذاتها كل ليلة وهو تأخره لنصف ساعة عن الموعد المحدد الذي تغلق فيه والدته بوابة المنزل.

لا تبدو عليه المشاكسة، كما لا يبدو عليه الهدوء دائماً، لا أعلم تحديداً ما الذي يفعله في الغربة، وما قصة صورته وهو يكنس أرضية أحد البيوت بفانلته البيضاء، تراه أكان يحتفظ كغيره من الشباب العرب ببعض من الصور التي سيتفاخرون يوماً بها مع مطبات غربتهم واعتمادهم على نفسهم الذي تحتم عليهم دون استئذان، أم أنه التقطها في مكان عمله، المنفذ الوحيد ليعيل نفسه حتى يستطيع أن يعيل بدوره عائلته؟

حقيقة لا أعلم، كل ما أتذكره حول اسامة، جل الشعر الكثيف، وسيجارته التي كان يتناوب على سحب أنفاسها هو وأحمد ابن عمه.. والإختلاف الشاسع بينه وبين أخيه البكر الذي فاز بفرصة اكمال جامعته في لبنان ولم يفز يوماً بأن يكون الأخ الأصغر..ليغلق البحر فمه ويسمح له بالمرور دون غدر هذه المرة!

 

 

ما أكبر سوريا في عين الحلوة

مدخل: “يا مال الشام يا الله يا مالي

طال المطال ياحلوة تعالي

يا مال الشام على بالي هواك

أحلى زمان قضيتو معاك

يا مال الشام على بالي هواك

أحلى زمان قضيتو معاك”

 

السوريين في لبنان، لا أدرك كم من نتائج البحث والمواضيع المؤرشفة التي ستظهر لي إن جربت واستخدمت يوماً تلك الكلمتين الملتصقتين في محرك البحث “جوجل”. لطالما كان الأمر معقداً، حاملاً لعدد من علامات الاستفهام والتساؤل.. إلا في عين الحلوة، كل شيء كان يختلف في تلك البقعة الضيقة!

الأرض الحاملة لمعنى الضيافة والكرم العربي بطريقة لن يصدقها إلا من زارها يوماً..

هناك، حيث يعيش الفلسطينيون فوق بعضهم البعض في بيوت متلاصقة حد إختفاء خصوصية الأسر فيه، كانت الأبواب دائماً مرحبة بالسائلين، المحتاجين..والنازحين!

رغم أن الأمر ذو حدين، فعندما كانت الحلوة مضيافة للتجار السوريين والمشترين اللبنانيين، كان هناك دوماً من يريد أن يحدث زوبعة، أن ينقل فتنة الاتفاقيات التي وقع عليها من هم أكبر منا.. لنتذمر وأخيراً من فتات وحدتنا العربية في بقعة لن تفقد فيها ملامحك أبداً.. لأن عين الحلوة لا تنسى أولئك الذين يحبون فلسطين التي بها.

أتساءل الآن بعد أن غبت نحو ثمانية سنوات عن ذلك المكان، كيف أصبح؟

وهل مازال الحاج أبو أحمد يأتي من سوريا صباحاً ليبيع الفواكه والخضراوات؟

هل لازال هناك فواكه وخضراوات تزرع؟ أم أنه  اتجه هذه المرة للاسترزاق ببيع شراب الجلاب والمكسرات؟

 

جميلة كانت عين الحلوة حين توجهت إليها أنظار اللبنانيون في حروبهم السابقة وخاصة الحرب الأخيرة عام 2006 التي فتحت مدن العالم أبوابهم لضم الإنسان اللبناني أيا كانت طائفته..

ومؤسف هو الحال الذي يستقبل فيه الفلسطيني وأخيه السوري على حد سواء..

عين الحلوة التي لم تيأس رغم تكاثر الفتن من حولها، ها هي من جديد تستقبل السوريين..واللبنانيين وكل من رفع شارة النصر باتجاه الله مردداً..

“على هذه الأرض ما يستحق الحياة”

 

*** 

آه لو بإستطاعة القارىء أن يستنشق عبق الذكريات التي يكشفها القلم بأحرف متجردة من كل شيء إلا من كلمات تغنى بها أبناء الوطن العربي والعالم لياسمين الشام لسوريانا، ومع ذلك لم يوفها أحد حقها من جمال عيناها الخضراوتان أو نمش وجهها الذي يحكي تفاصيل شعب من فرط طيبته ظلم نفسه.

سوريا، هي الدولة التي احتضنت بعاداتها وتقاليدها، ببساطتها وتحضرها، بفلاحينها وأطبائها، هي مزيج من هذا وذاك، من العصرية والقدم..

هي عاصمة كل الدول، وكل الدول مع أول نداء استغاثة .. فرطت بها..

هي التي من قطرات الندى تحكي قصة عاشقان التقيا في صباح دمشقي على أنغام فيروز.. “أديش كان في ناس ع المفرق تنطر ناس وتشتي الدني..”

هي التي تشتم بين جدرانها هموم المارة بها، لا تستهن الشام بمن فيها وبمن عبروها، هي الذكريات الجميلة والمؤلمة، في ذاكرة السلام

أعطت لأبنائها أكثر مما تمنوا، أكرمت ضيوفهم، وتحاملت على نفسها حتى حاولوا التخلص منها لشدة فرط بياضها الذي  طمع به الغرباء..

وبدؤوا خطتهم من الجذور..ببتر الساق..

حتى أصبحت سوريانا مقعدة، تكافح بيديها التي لا يمكن أن تصفق بمفردها، وتنوح بين الدعاء والآخر، على جميل نكره أقرب الأقربون إليها..

 

مخرج: “ودعتيني وعاهدتيني

لا تنسيني ولا أنساك

مهما تغيبي سنين وليالي

طال المطال طال وطول

لا بيتغير ولا بيتحول

مشتاق ليك يانور عيوني

حتى نعيد الزمن الأول

يلا تعالي كفاك تعالي”