عند الإشتياق لا تكفيك الخطوط المدفوعة.. في مخيم لا تسمع به الأصوات جيداً

أن تكون أختي التي لم أحظى بمخالطتها إلا لعامين..

عامين من عمر بأكمله يعيش فيه جسدي بلا هوية، نصفي هنا والآخر مني هناك..حيث تكمن هي!

أذكر  يومنا الأخير بأرض وطنٍ لا يشبه من ملامحنا شيء، في بقعة تلتقي فيها كل الوجوه التي لا يشبه أحدها الآخر

ودعتها.. وفي يدها لعبة لعروسة من شواطىء هاواي الأمريكية..

رجفت شفتها العليا، حبست الدمع في عيني..ليبكي قلبي ليلتها

بكى قلبي كثيراً لأنني رحلت قبلها في إجازة لم أحسبها أنها ستطول، لأتصل بها، فيأبى أن يكون وداعنا الأخير عبر هاتف عتيق أسلاكه مكشوفة في مخيم لا تسمع به الأصوات جيداً

كل الأصوات في المخيم مكسورة، كصوتي وصوتها وسماعة الهاتف المهترئة

بكينا حتى احتضنتنا الكلمات، طبطبت على رأسي وهي تناديني.. 

لم أحدثها كثيراً، فعند الإشتياق لا تكفيك الخطوط المدفوعة

عند الإشتياق، لا تتحدث بتكنولوجيا تطلب منك مالاً مقابل كل ثانية، بل اتجه إلى أتعس الطرق لكي تحكي على الملأ معنى أن تكون لك أختاً.. تشبهك حد الذي يصدم المارة من حولك.. في النصف الآخر من العالم

سبع سنوات وأكثر، تتبادلا القبل والأحضان عبر زيارة الأم والأخت وهدايا متناقلة بين الطرفين

يحدث أن تلتقي العالم كله في ليلة.. وتمضي عمرك بحثاً عن وجه يشبهك

وجه أحببته لأنك رأيت ذاتك به

لأنك تريد أن ترى ذاتك به ليبقى فتات ثقتك بنفسك حياً

ما الذي فعلته الغربة بنا يا لمياء؟

حدثيني أنت عن المكان الذي لا يشبهك..

عن آخرون سرقوك مني وحرموني..لحظة أبكي فيها على كتفيك فتبكي معي حتى أهدأ

حدثيني عن عالم هاوي في تشتيتنا أكثر، في تغريبنا، نحن اللتان حرمة احدانا وطنها والأخرى حرمها الوطن من حبه

كيف لنا أن نلتقي بعد أن طول شعري كثيراً وكان قد حلف ذات مساء أن لا يطول إلا بعد أن تأتي لتصفيفه بيديك

كيف لنا أن نلتقي، وأصواتنا في ذلك الهاتف..فقدت الكثير من التفاصيل، حتى لا تبكي إحدانا،  فتعجز الأخرى عن احتضانها..

عين الحلوة تبكي شبابها المهاجر للبحث عن وطن

مرة قرابة الثمانية أعوام منذ أن التقيته آخر مرة، أسامة.. ذاك الشاب فاره الطول، ذو الابتسامة الخجولة وحركات الجسد التي تفضح قلة خبرته في التعامل مع النساء من حوله.

يشبه في طلته كافة شباب المخيم، بدءاً من بلوزة “الشباح” الذي يلبسها على الدوام لتبرز عرض كتفيه، وصولاً بالبنطال الذي يزين أطرافه السفلية بعضاً من الخيطان البيضاء، أحياناً تدل على الموضة وفي الكثير من الأحيان الأخر تدل على عمر السنوات التي تصادق فيه أسامة مع بنطاله دون أن يشتكيه أو يعرضه على أحد لتجميل أطرافه.

كان راضياً وقنوع، ولم يبدو عليه أبداً الطموح والجرأة التي أوصلته إلى ايطاليا عبر البحر، البحر ذاته الذي ابتلع ساجد بعد الحرب على غزة، وهو ذاته الذي لم يشبع من دم الفلسطينيين في محيطه وبقاعه، بل بات متعطشاً كلما شم على بعد أمتار رائحة الدم المنبعثة من تفاصيلهم كافة.

كان وفير الحظ، على غير عادة، استطاع أن يصل حيث أراد وان كانت الهجرة الغير شرعية هي المنفذ الوحيد ليكون ولو لمرة في حياته ابن المخيم الذي سيقص على الملأ قصته، ربما لم يكن فالحاً في الكتابة، أو في الحديث، لكن الفلسطيني يكفيه أن يبكي مرة أو يصرخ على الهاتف حنيناً وهو يردد “كيفك يابا كيفك يما” ليعرف المارة أن لهذه النبرة..الكثير من الحكايات والقصص!

 

أتذكر كم من مرة وبخته على جلوسه الطويل أمام عتبت منزل جدتي، أو صوته المرتفع وهو يتجادل مع والدته في المسألة ذاتها كل ليلة وهو تأخره لنصف ساعة عن الموعد المحدد الذي تغلق فيه والدته بوابة المنزل.

لا تبدو عليه المشاكسة، كما لا يبدو عليه الهدوء دائماً، لا أعلم تحديداً ما الذي يفعله في الغربة، وما قصة صورته وهو يكنس أرضية أحد البيوت بفانلته البيضاء، تراه أكان يحتفظ كغيره من الشباب العرب ببعض من الصور التي سيتفاخرون يوماً بها مع مطبات غربتهم واعتمادهم على نفسهم الذي تحتم عليهم دون استئذان، أم أنه التقطها في مكان عمله، المنفذ الوحيد ليعيل نفسه حتى يستطيع أن يعيل بدوره عائلته؟

حقيقة لا أعلم، كل ما أتذكره حول اسامة، جل الشعر الكثيف، وسيجارته التي كان يتناوب على سحب أنفاسها هو وأحمد ابن عمه.. والإختلاف الشاسع بينه وبين أخيه البكر الذي فاز بفرصة اكمال جامعته في لبنان ولم يفز يوماً بأن يكون الأخ الأصغر..ليغلق البحر فمه ويسمح له بالمرور دون غدر هذه المرة!

 

 

ما أكبر سوريا في عين الحلوة

مدخل: “يا مال الشام يا الله يا مالي

طال المطال ياحلوة تعالي

يا مال الشام على بالي هواك

أحلى زمان قضيتو معاك

يا مال الشام على بالي هواك

أحلى زمان قضيتو معاك”

 

السوريين في لبنان، لا أدرك كم من نتائج البحث والمواضيع المؤرشفة التي ستظهر لي إن جربت واستخدمت يوماً تلك الكلمتين الملتصقتين في محرك البحث “جوجل”. لطالما كان الأمر معقداً، حاملاً لعدد من علامات الاستفهام والتساؤل.. إلا في عين الحلوة، كل شيء كان يختلف في تلك البقعة الضيقة!

الأرض الحاملة لمعنى الضيافة والكرم العربي بطريقة لن يصدقها إلا من زارها يوماً..

هناك، حيث يعيش الفلسطينيون فوق بعضهم البعض في بيوت متلاصقة حد إختفاء خصوصية الأسر فيه، كانت الأبواب دائماً مرحبة بالسائلين، المحتاجين..والنازحين!

رغم أن الأمر ذو حدين، فعندما كانت الحلوة مضيافة للتجار السوريين والمشترين اللبنانيين، كان هناك دوماً من يريد أن يحدث زوبعة، أن ينقل فتنة الاتفاقيات التي وقع عليها من هم أكبر منا.. لنتذمر وأخيراً من فتات وحدتنا العربية في بقعة لن تفقد فيها ملامحك أبداً.. لأن عين الحلوة لا تنسى أولئك الذين يحبون فلسطين التي بها.

أتساءل الآن بعد أن غبت نحو ثمانية سنوات عن ذلك المكان، كيف أصبح؟

وهل مازال الحاج أبو أحمد يأتي من سوريا صباحاً ليبيع الفواكه والخضراوات؟

هل لازال هناك فواكه وخضراوات تزرع؟ أم أنه  اتجه هذه المرة للاسترزاق ببيع شراب الجلاب والمكسرات؟

 

جميلة كانت عين الحلوة حين توجهت إليها أنظار اللبنانيون في حروبهم السابقة وخاصة الحرب الأخيرة عام 2006 التي فتحت مدن العالم أبوابهم لضم الإنسان اللبناني أيا كانت طائفته..

ومؤسف هو الحال الذي يستقبل فيه الفلسطيني وأخيه السوري على حد سواء..

عين الحلوة التي لم تيأس رغم تكاثر الفتن من حولها، ها هي من جديد تستقبل السوريين..واللبنانيين وكل من رفع شارة النصر باتجاه الله مردداً..

“على هذه الأرض ما يستحق الحياة”

 

*** 

آه لو بإستطاعة القارىء أن يستنشق عبق الذكريات التي يكشفها القلم بأحرف متجردة من كل شيء إلا من كلمات تغنى بها أبناء الوطن العربي والعالم لياسمين الشام لسوريانا، ومع ذلك لم يوفها أحد حقها من جمال عيناها الخضراوتان أو نمش وجهها الذي يحكي تفاصيل شعب من فرط طيبته ظلم نفسه.

سوريا، هي الدولة التي احتضنت بعاداتها وتقاليدها، ببساطتها وتحضرها، بفلاحينها وأطبائها، هي مزيج من هذا وذاك، من العصرية والقدم..

هي عاصمة كل الدول، وكل الدول مع أول نداء استغاثة .. فرطت بها..

هي التي من قطرات الندى تحكي قصة عاشقان التقيا في صباح دمشقي على أنغام فيروز.. “أديش كان في ناس ع المفرق تنطر ناس وتشتي الدني..”

هي التي تشتم بين جدرانها هموم المارة بها، لا تستهن الشام بمن فيها وبمن عبروها، هي الذكريات الجميلة والمؤلمة، في ذاكرة السلام

أعطت لأبنائها أكثر مما تمنوا، أكرمت ضيوفهم، وتحاملت على نفسها حتى حاولوا التخلص منها لشدة فرط بياضها الذي  طمع به الغرباء..

وبدؤوا خطتهم من الجذور..ببتر الساق..

حتى أصبحت سوريانا مقعدة، تكافح بيديها التي لا يمكن أن تصفق بمفردها، وتنوح بين الدعاء والآخر، على جميل نكره أقرب الأقربون إليها..

 

مخرج: “ودعتيني وعاهدتيني

لا تنسيني ولا أنساك

مهما تغيبي سنين وليالي

طال المطال طال وطول

لا بيتغير ولا بيتحول

مشتاق ليك يانور عيوني

حتى نعيد الزمن الأول

يلا تعالي كفاك تعالي”

 

 

 

على الله تعود بهجتنا

منذ أن استطعت أن أنطق اسمي ذو الأحرف الكثيرة وأنا أتساءل هل كانت لفلسطين بنات يحملن اسم كإسمي؟

بنات من نسائها العظيمات اللواتي أتباهى بهن ما إذا اقترن اسمي بنضالهن..

أو إحدى اللوات كن يكادحن بين أغصان الزيتون والمارمية وهن يدندن:

“يازريف الطول وقف تقلك

رايح عالغربة وبلادك أحسنلك

خايف يازريف تروح وتتملك

وتعاشر الغير وتنساني أنا”

 

استطعت في مراحل عمري المبكرة أن أعي همي الاول والذي اختارني دون موافقتي..

همي في إجابتي” أنا فلسطينية من لبنان” كلما سألني أحدهم من أي بقاع فلسطين أنتِ؟

لكن ربما خارطة فلسطين الكبيرة المعلقة على مدخل بوابة منزل جدتي في مخيم عين الحلوة لم تعلمني يوماً أنني لاجئة ليس لها أدني الحقوق في كافة زوايا هذه الأرض من أقلها رفاهية إلى أكثرها دناءة.

بذات الإصبع من سبابة يد جدي، كان يأتي بيدي أنا وإخوتي وصولاً إلى أصغر أحفاده ويقف بنا أمام تلك الخارطة، مشيراً بيده إلى بلدة صفد ويتمتم “شايفين صفد؟، إنتو من هون وهاي بلادكوا!”

يصمت قليلاً وينهي كلامه قائلاً: “إن شاء الله يتشوفوها.”

 

يعاود الحديث مجدداً بعد أن يأخذ رشفات من القهوة وهو يتلو علينا تجاربه مروراً بحيفا حيث التقى بجدتي هناك..

واليوم..

كلما زرت مخيم عين الحلوة في الجنوب اللبناني ابتسم لصورة جدي ذات الشريط الأسود بجانب خارطة فلسطين وأدندن:

“على الله تعود بهجتنا والفراح

وتغمر دارنا البسمة والفراح

قضينا العمر ولف طل وولف راح

وضاع العمر هجران وغياب

وأسجد على أبواب الله”

سعادة التي سميت بغير حالها

من الجميل أحياناً أن يخرج المرء عن تلك القوقعة التي ولد فيها، أن يوسع حدوده أو ينجرف حد تكسير تلك الحواجز التي قيل عنها يوماً “خطاً أحمراً”، كما العادات والتقاليد في البقع العربية..

هكذا كانت ترى سعادة نفسها، وربما لأن كل ممنوع مرغوب، لم ترى في كل الممنوع حراماً بل كانت تجده شيئاً من حق نفسها طالما أنها رغبت به يوماً ما.

وقبل أن تكمل عامها الثامن عشر، فقد عذريتها.. في ذلك المخيم الذي كان يرى في شعر الفتاة اجراماً، وفي صوت خلخالها ضياعاً لسمعة العائلة بأكملها.

فقدتها، ولأنها ولدت في عائلة لا تجرؤ على سماع صرخات ألمها، قرروا أن يستروا عليها بآخر تربى على أنه لم ينال من نساء المخيم إلا واحدة ناقصة!

فكانت سعادة، بنواقصها المجتمعية والدينية، فتاة كاملة في عيناه، تزوجها حتى أنجب منها ابناً وثلاثة فتيات، وخيانة لم يرتب لها مهدئاً أو مبرراً..

خانته في ليلة وضحاها، بعقد زواج شرعي، وهروب على مرأى الجميع، وتزوجت من ابن أخيه الذي فقد زوجته في مخاضها وفقد معها طفله الذي انتظره كثيراً حتى يحقق كل شيء في “الحلال”.

لعلها أغرته، أو أنه فعلاً أحبها، لا أحد يعلم تفاصيل هذه الرواية بدقة لأن سعادة لم تكن تعطي الجميع ما يريدون سماعه، كانت ذكية في ترك الكثير من التفاصيل مغيبة، وفي سرد الحقائق الناقصة، حتى لا يقال عنها شريفة وحتى لا تنعت يوماً بالعاهرة..قررت أن تمت وترحل عن الدنيا بلا مسميات أو ألقاب.

تزوجت بابن عم زوجها، وهربت، لم تفعل عائلتها شيئاً أيضاً، كان والدها متوفي، ولعل هذا السبب هو الذي دفعها لفعل الكثير دون أن تبالي لشرف العائلة كما كانوا يصفون الأمر، وبعد زيجتها الثانية، توفيت والدتها ولا أحد يعلم ما كان في قلبها من موقف سعادة.

ولعل سعادة، لم تعطي الرب حقه في كل مغامراته تلك، وكانت أبعد منه عما كانت تعتقد، تركها تعبث كثيراً طيلة مراحل حياتها، وقبل أن تشيخ، علمها بأن حرق قلوب الأبناء هو تماماً كحرق قلب العاقر عندما ينتفخ بطنها بحمل أسموه “كاذباً”.

مرضت بالسرطان، نسيت الجميع من حولها، أخبرتهم أنها تريد أن ترى الصغرى فيهم.. اهدتها بعد معاناة سلسلة من الذهب الخفيف، اسمتها فرح، وتركت فيها كل ملامحها، كل تحدياتها، واصرارها على أن في المخيم داخل البقعة الصغيرة جداً كان يوجد انسانة، اخطأت كثيراً ولم تمت برصاص حي، ولا باستئصال جذري وتبري، لأن أهلها عرفوا الله جيداً وتركوا له حرية العقاب.

رحلت، واورثت بناتها الثلاثة، سمعة جيداً جداً، كلما سمع أحدهم اسما لاحداهن صرخ ” بنت امها”، حتى نقلت الصغيرة بعضاً من تلك المغامرات، تطلقت مرة، لتتزوج من زوج أختها.. وترحل تاركة خلفها رسالة لأبيها لا يعلم مافيها أحد، ولا يعلم ما الذي دفعها لذلك، أهددها الشاب، أم أنها قررت أن تهدد حياتها بيدها قبل أن تصبح عصفورة في قبض سجانِ ما!

 

شيخ الشباب الذي مات قبل أن يهدي جميله وردتها!

 

نسمع كثيراً أن هناك العديد من البقع حول العالم التي يغلب فيها الدين على العادات، وهناك من تغلب العادات فيها على الدين، حتى أنه وصل الأمر إلى إلصاق بعض الأحكام بالديانات وهي لا تمت لها بصلة في الأساس.

الحل بالتعليم الصحيح، هكذا كنت أردد دوماً في نقاشاتي حول تلك البقع، التعليم الصحيح هو الشيء الوحيد والورثة الحقيقية التي بالفعل بإمكان أياً كان أن يهبها إلى أبناءه وأحفاده وأن موت شامخاً لما خلفه من وراءه.

ولكن، ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، مع قلة الإمكانيات وصعوبة الحياة المعيشية وتوفر الفرص يصبح بالكاد من الممكن أن يمارس الشخص أحياناً حقوقه بالكتابة وقراءة الكلمات بتقطع!

بالطبع نعلم جميعاً مدى ثقافة الشعب الفلسطيني، ولكن ليس في المخيمات!

تلك التي للأسف تنفصل كثيراً عن الدين في عدد من الزوايا، وتلتصق كثيراً بالعادات والتقاليد المتوارثة، لتصبح في ليلة وضحاها منبر للتحليل والتحريم!

شيخ الشباب هو جارنا السبعيني، كان يهتم بمظهره كثيراً، يجلس على حافة الطريق والعكاز بين يديه وهو يدندن دوماً لكل نساء الحي المارات من أمامه “الورد جميل..جميل الورد”

كان شقي، حتى في كبره! ومع تلك الشقاوة وعجزه عن الحركة منفرداً لم تشفع له خبرته في الحياة أبداً أن يدرك بأن الصاق التهم هو أصعب من الوقوع بها!

تنقل كثيراً بين بيوت أبناءه الثلاثة الذين يتجاورون في الحي، وكل منهم  يعادي الآخر بسبب الزوجات وأحياناً كثيرة..بسبب “نقل الحكي..وتكتير البهارات”

حتى قبلت حنان تلك الرقيقة أن تعتني به، في ذلك الوقت تحديداً دخل زوجها السجن بسبب سرقة وقع بها، دون حاجته!

مكث في السجن قرابة العشر سنوات، كانت فيهما حنان الأم لحماها، ولأبنائها الأربعة..ولنساء الحي!

افتتحت بقالة في منزلها لكي تسترزق منها بينما تربي ابنتها الصغيرة ويتمكن ابنها البكر من ترك الدراسة وايجاد عمل، للأسف لم يعتقها شيخ الشباب -حماها- من ظنونه السيئة!

حتى أنه نشر عنها الكثير من القصص وهو بالكاد يتذكر اسمه لكل من هب ودب في تلك الأرض، ومع كل زبون من الذكورة، يعلو صوته أحياناً بالدعوات عليها وأحياناً بالسباب وأخرى كان يصرخ كثيراً..حتى تدخله وتغلق باب البقالة التي هي في الأساس “باب منزلها” وتبكي بحرقة دون أن يسمع أنينها أحد.

بحثت عن عمل آخر، كي لا تتحول إلى سبب أيضاً في عركلة مستقبل أبنائها، يكفيهم مافعله والدهم، ويكفيها ما سمعته من اتهامات لن تشفع لها سنوات عمرها الناضجة أن تتجاهلها أبداً.

عملت أخيراً في احدى الحضانات، كمنظفة ومسؤولة عن الشاي والقهوة، وإلى جوارها كانت ابنتها الصغيرة ترافقها في كل صباح، حتى مضت السنوات وعاد الأب!

عاد بشعاً في أخلاقه، وأنفاسه، أكثر مما كان عليه.. عمل في بيع الخضراوات هذه المرة، تلك المهنة التي بإمكان أي عاطل عن العمل في المخيمات الفلسطينية بلبنان أن يمتهنها دون الحاجة إلى استخراج شهادة!

لكن القدر لم يشاء أبداً أن يترك حنان تسعد برؤية أبنائها يكبرون في حياة كريمة أبداً، وكأن القدر يغضب كثيراً إن قال له أحدهم “هناك فلسطيني مرتاح” يغضب بطريقة يرمي بها كل من يستحق ولا يستحق بمطبات قد ينتهي بها الأمر إلى انتحار الكثيرين!

التقى زوج حنان بفتاة  في سوق الخضراوات، يا اله من مكان غريب، حين تتحول روائح الصباح التي تمتزج بين العرق والدخان إلى موعد ليلي فزواج، فصمت الجميع لأنه ببساطة..رجل!

تزوج بالفعل، لم يقدر أبداً كافة تضحياتها، ولم يعبىء بحديث أحدهم، لأنه رجل ولأنه في دين المخيمات التي يتوراثها الجميع، بإمكان الرجال أن يخطئوا ليتعلموا، بإمكانهم أن يكذبوا حتى يصدقوا، وأن يشتموا حتى يربوا الآخرين، أن يخونوا زوجاتهم ليتمتعوا، وأن يتزوجوا على تلك التي ضحت لهم عمراً حتى يطبقوا الشرع “مثنى وثلاث ورباع”!

مات شيخ الشباب قبل أن يشهد خروج ابنه وزواجه، مات وفي يديه تلك الوردة التي كان يضعها في جيب قميصه تارة أو يدسها بيه أصابعه تارة أخرى..

مات وهو لم يعي أبداً من هي “جميلة الورود” التي انتظر على ذلك المقعد كثيراً يبحث عنها بين وجوه نساء المخيم، لم يعطها الوردة التي ذبلت بين يداه، ولا حتى دندنة من صوته الفلسطيني الذي يبعث بأمل قد يخيل أحياناً أنه انتهى الأمل منذ عام 1948!

مات.. وبقى مقعده فارغاً

استطاع حتى بعد موته أن يربك حنان بفكرة فتح بقالة من جديد، وأن يصفق لإبنه من زيجته الثانية رغم أنه رحل قبل تهنئته بها.. وتمكن أن يرفع رأسه كثيراً لأنه أورث من خلفه علماً بدين المخيم وعاداته المحرمة.

لماذا الحلوة وليس غيرها؟

كل المخيمات الفلسطينية حول العالم تضم لي قريباً واحداً على الأقل، لا تسألوني كيف فنحن الفلسطينيون نتقارب بالأرض وليس بالدم فقط!

لكن الحلوة، تبقى على رأس القائمة دوماً، ليس لأنها أكبرهم أو أكثرهم جمالاًَ.. بل لأنها تضم رائحة عائلتي الأولى تلك التي نزحت ذات صباح من صفد واستقرت بين الشتات والتشرد في تلك البقعة التي لا تتعدى مساحتها كيلو متر مربع واحد!

ولأن سكانه قرروا أن يتحاملوا على الواقع المرير، أن يكتظوا ويتكاثروا حتى وصلوا إلى 80 ألف نسمة، قررت أن أمنح نازحي عام 1948 من قرى الجليل في شمال فلسطين القليل من حقهم الذي رضوا بأقله في ثمانية مدارس وعيادتان للأونروا ومستشفيين صغيرين للعمليات البسيطة فقط!

ومايزيد الواقع المر مرارة، أن تجد رغم التطور الذي وصلنا له، تراجعاً أخلاقياً وانسانياً حيال ساكنوا المخيمات، وكأن مكانهم ليس على هذه الأرض، وكأنهم لا يستحقوا أبداً أن يكونوا عليها في الأساس!

وجدت الكثير ممن يرى في دخول المخيم “بطولة” ترفع لأجلها زغاريط الكلمات التي تتنوع في دهشتها بين التصفيق بحرارة أو الصراخ بأعلى نبرة، خوفاً وخشيةً من “الوحوش” الذين يقبعون هناك خلف الحواجز التي زادت تعقيداً ووجعاً لكرامتهم!

قد يستغرب المارين من هنا، أن في ذلك المخيم الذي يحيط به من كل زاوية حاجز لبناني، والذي قد يشهد أصواتاً لطلقات نارية أو اشتباكات داخلية “بين الأخوة” يوجد أيضاً من بين أولئك أصحاب “اللحى والذقون” والمظهر الفلسطيني ذا التجاعيد المتفرقة من يعتصر قلبه ألماً على صوت نواء لقطة ضالة جائعة.

في تلك البقعة التي تشكل خطراً على الصحافة والمارين من حولها “حسب ما أفاد البعض” يوجد كرم أهل فلسطين، رائحة المارمية التي ستشمها في كل “الزواريب” وضحكات الأطفال التي إن استطعت تمييزها ستتشكل على اثرها خارطة فلسطين.

سترى في الأم الفلسطينية، وطن، وفي أبنائها، قرى متلاصقة لا تفرق بينها إلا بالمظهر لا بالتفاصيل.

الهم واحد هناك، حق العودة.. لا أحد يرغب أن يستقر في بيوت مكتظة ومتراصة جداً حد الذي يجعلك وبكل بساطة تسمع بكاء أم أحمد ليلاً لأن زوجها أهملها في سبيل دردشة فيسبوكية!

وقد ترى من المتطرفين دينياً وأخلاقياً بعدد شعيرات رأسك وأكثر، لكن الخير هو الذي يعم، ولأنك صاحب خير.. فسيطال الله لك من هم مثلك ليستقبلوك كما استقبلت قضيتهم يوماً في ضميرك!

ستدرك على الفور، أن المراحل العمرية التي يعيشها أبناء الكوكب اللعين هذا، لا يعترف بها في “الحلوة” الابن الذي يولد بكراً هو أباً وسنداً منذ يومه الأول، والفتاة التي تولد بكراً هي أماً وسنداً منذ يومها الأول.

الكل هناك يدفع الثمن كثيراً، وصعوبة الوصول إلى تعليم عال ونظيف يصعب المسألة قليلاً في التفريق بين العادات والتقاليد والأحكام الدينية.

قد تجد من يعارض طريقك إن كانت بجانبك “امرأة مفرعة” وقد تجد من ينصحك أن “تستر عليها” أو في بعض الأحيان، يتقدم لخطبتها!

كل شيء متداخل، وكل الأشياء تحدث هناك سريعاً بلا تفكير في الغد، لأن رب اليوم والغد هو واحد!

تماماً، هذه الفكرة التي كانت تسندهم منذ نزوحهم الأول “يومين وبنرجع”.. وصار اليومين سنين كتير ونحن ناطرين لنرجع، ومرجعناش ياحلوة!

 

فتش عن إنسانيتك

” تعا ع المخيم لتشوف إنسانيتك”

أحياناً كثيرة يلعب المكان كما الزمان دوراً كبيراً وجديداً في بروز إنسانيتنا.

قد نقبل ما لم نتخيله، وقد نرفض ما كنا يوماً مستعدين لتخيل أنفسنا به، كل شيء قد يتبدل في اللحظة التي تستيقظ فيها الإنسانية في داخل كل إنسان منا.

لكن عين الحلوة، تلك البقعة التي تحيطها من كل الجهات معاناة لا يستطيع المرء أن يتخيلها أبداً، تستطيع بكل بساطة أن تحدد مدى عمق إنسانيتك من خارج أسوارها.. من ذلك الحاجز الذي يحد عن يمينه وشماله صفاً من السيارات التي تنتظر نهارها تحت حرارة الشمس وعطل المكيفات لتتمكن من الوصول إلى نقطة الرجل العسكري، “هويتك إزا بتريد”.. عبارة يحفظها أهل المخيم أكثر من حفظهم لأسماء أبنائهم أو أسمائهم الشخصية إن أردنا الوصف بإنصاف!

عبارة، لا يستطيع أن تمضي يومك إلا بسماعها، ربما يكون ذلك للعالم نقطة  ايجابية لصالح الحكومة اللبنانية لكنها في أرض الواقع، ماهي إلا عقبة على شعب “تعتر جوى وبرى”.

تخيل أن تمنع من دخول باب بيتك بلا إذن مسبق من جيرانك مثلاً، الأمر مقزز بالفعل!

صحيح، أن المخيم يحمل الكثير من التفاصيل المنهكة والسلبيات التي شوهت من جمال شعبه حد تفككه بين الأحزاب، إلا أنه يجتمع في نهاية الأمر تحت الهم الفلسطيني، هم العودة، وهم الكرامة التي فقدتها عائلاتنا في الداخل.

لا عمل للفلسطيني، ولا تمليك له.. بالرغم من أنه يريد العودة لأرضه، لا حتى جوازات سفر تساعده على التنقل بحرية أكبر.

كلها سياسات، وكلها في مصلحة الشعب الفلسطيني تفرقت!

حتى أصبح الموت أسهل مايكون لديهم، تمرض فتدخل المستشفى فتعجز عن الدفع ثم تتمدد على السرير حيث أصوات المارة تثير فضولك للتنصت، وتدفن حيث أنت، لا فاتورة تم دفعها ولا ورقة دفن تمكن ذويك من استخراجها.

لا إكرام للإنسان الفلسطيني ميتاً كان أم حياً داخل مخيم عين الحلوة، السبب قد تعرفه من قطة مارة أو كلب شارد ضال، قد تسمعه من الباعة في الشارع الفوقاني بسوق الخضار، أو من احدى الفتيات اللواتي تركن الدراسة مبكراً للإلتحاق بدورة تصفيف شعر لمساعدة أهلها.

قد ترى الاجابة من غير أن تنطق سؤالك، بين أعين الفتاة الشقراء التي قد لا يتجاوز فرق العمر بينها وبين أمها بضعة سنوات، أو برائحة العرق من جارك الذي ندم لاحقاً على “خلفته” التي لم تأتي إليه إلا بأوتار صوتية جبارة من زوجته كل صباح.

كل شيء مكشوف هناك، كل شيء واضح لا يحتاج إلى بحث كي تستخرج منه ماتريد، حتى أسلاك الكهرباء.. أينما مشيت ستجدها فوقك، حتى في “الزواريب” والأزقة الضيقة جداً، ستجد لك إجابة لكل سؤال سيخطر في بالك، لأن بحثك عن إجابة لن يتطلب منك إلا تأمل كل ما حولك ومن حولك.

في تلك البقعة، التي اشترت للفلسطينيين ببضع أوراق وتوقيعات، وتركت لهم ليدفعوا ثمنها بأنفسهم إلى اليوم..

ستتمكن أن تتعرف على حجم انسانيتك.. وتستسلم في نهاية الأمر للعجز الذي سيلحق بك!