by

حراس الذاكرة الفلسطينية

كانت جدتي بطلة ذكرياتها دون منازع. في الوقت الذي كنت أشعر فيه أن حياتي لم تعد شيئًا لذيذًا سهلاً علي أن أعيشه بهدوء، وجدتني أتصل بها وأسألها المزيد من التفاصيل.

علا صوتي في أحيان كثيرة لأنه لم يكن بإستطاعتي الكتمان أكثر، ولم أكن أعلم أبدًا أن فتاة صغيرة في مثل سني لا يمكن أن تحمل الإجابات على تساؤلاتها المعقدة، حتى كبرت… وفهمت وحدي.

كنت أسير في كل مرة عبر الطرقات الموجودة في حكايات جدتي. رمتنا الأرض خارج أرضها وفي صيدا صرنا لاجئين، كانت عائلتي موجودة في مخيم له شكل غير مألوف في بادىء الأمر. وعندما كنت أبتعد عن الدار كنت أبتعد عن طفولتي في الوقت ذاته، لتصبح أصابع الذين أحبهم لا تقشر البرتقال. الأرض حيث كل بقعة تحمل في داخلها قبرًا للملايين من الناس الذين قتلوا أو هجروا تاركين خلفهم الكثير من رائحة الدمار الخانقة. غابت جذورهم تحت التراب لكنها لم تختفي إلى الأبد. الرصاص صار ذكرياتنا اليومية، نيران المخيمات لم تزل تحترق. وهذا التاريخ كنا نتعلمه، فهل كان من السهل حقًا أن ننزل من فوق الحائط؟

لكني وجدت روحي في تلك الأماكن التي لم أستطع شم روائحها قط، والليل لا يجد فيها النهار. استمعت إلى الصلوات التي تقام حتى هذه الساعة هناك. ومن ثم سرت لمدة سبعون عامًا بإتجاه الشمال، حيث عكا والكثير من البشر البسطاء. شاركتهم خبزهم في وجبات الطعام، جلست على أرضية المساجد حيث الغرباء المحترمون. رأيت امرأة شابة ليس لديها طريقة أو وسيلة لتذهب إلى أي مكان، بلا تعليم ولا تسلية ولا حتى مكان تعيش فيه، ومع ذلك لم تفقد الشعور بالأمان للحظة واحدة.

تمتمت باسم الله عن الذي لا أعرفه حول هذه الأرض وهذا الشعب. كل شيء كان عظيمًا، لكني لماذا منذ وهلة بكيث!

أردت حقًا العودة إلى بلدي، ولكن في نفس الوقت كنت أعرف أنه لا يمكنني الذهاب إلى هناك. لأنه لا يوجد مكان لي.  يومًا بعد يوم، صرت أستمع إلى الأخبار، وأتابع ما يحدث بعيدًا في داخلها هناك، فيتحطم قلبي أكثر، لأن الأخبار كانت تحبطني كالعادة.  كان قلبي ينبض لشعبي، ولكني لم أعرف ما الذي يجب أن أفعله.

حتى تعلمت بمرارة أن هجرتنا لم تكن النهاية، وأن اللجوء لم يعني يومًا انشقاقنا عن تاريخنا وأهلنا وعاداتنا وتقاليدنا العربية الفلسطينية الأصيلة.

أيقنت أن للوطن واجب وحق علينا، وأن لدينا أمانة يجب أن نؤديها من خلال أبنائنا. أدركت أن بيوتنا وأزقتنا وشوارعنا الفلسطينية التي تركناها خلفنا، لم تعني لنا يومًا اليأس، وفقدان الأمل. وأن صوت زغاريط النسوة المختلط بصوت الرصاص، ما بين الرعب والصراخ، يولد فرح ما بطريقته الخاصة.

بل وفهمت أن ما يحدث هنا لابد أن يصل صداه هناك حتى تكون العودة إلى فلسطيننا وفي يدنا ما يعمرها ويفيدها.

وبعد أن مات الكبار ولم ينسى الصغار وهم يعيشون داخل فلسطين في مخيمات الجوار، تسائلت كيف لشبابنا الجديد أن ينسى بلدهم المحتل وهم يستيقظون كل صباح على رائحة الزيت والزعتر وتوارث العادات الفلسطينية بما فيها من عادات وتقاليد ولباس ولهجة، وهي تذكر بفلسطين وتاريخها النضالي.

نحن لهذه الأرض كنا ولهذه الأرض مازلنا وإنا إليها لراجعون.

وكما يفعل العاشق برسائل حبيبته القديمة، يشمها ويقبلها ومهما مر الوقت لا ينسى شكل الأحرف عندما ارتعشت شفتاه اثر قرائتها.

هكذا نقول بأننا فلسطينيون.

 

Write a Comment

Comment