by

شيخ الشباب الذي مات قبل أن يهدي جميله وردتها!

 

نسمع كثيراً أن هناك العديد من البقع حول العالم التي يغلب فيها الدين على العادات، وهناك من تغلب العادات فيها على الدين، حتى أنه وصل الأمر إلى إلصاق بعض الأحكام بالديانات وهي لا تمت لها بصلة في الأساس.

الحل بالتعليم الصحيح، هكذا كنت أردد دوماً في نقاشاتي حول تلك البقع، التعليم الصحيح هو الشيء الوحيد والورثة الحقيقية التي بالفعل بإمكان أياً كان أن يهبها إلى أبناءه وأحفاده وأن موت شامخاً لما خلفه من وراءه.

ولكن، ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، مع قلة الإمكانيات وصعوبة الحياة المعيشية وتوفر الفرص يصبح بالكاد من الممكن أن يمارس الشخص أحياناً حقوقه بالكتابة وقراءة الكلمات بتقطع!

بالطبع نعلم جميعاً مدى ثقافة الشعب الفلسطيني، ولكن ليس في المخيمات!

تلك التي للأسف تنفصل كثيراً عن الدين في عدد من الزوايا، وتلتصق كثيراً بالعادات والتقاليد المتوارثة، لتصبح في ليلة وضحاها منبر للتحليل والتحريم!

شيخ الشباب هو جارنا السبعيني، كان يهتم بمظهره كثيراً، يجلس على حافة الطريق والعكاز بين يديه وهو يدندن دوماً لكل نساء الحي المارات من أمامه “الورد جميل..جميل الورد”

كان شقي، حتى في كبره! ومع تلك الشقاوة وعجزه عن الحركة منفرداً لم تشفع له خبرته في الحياة أبداً أن يدرك بأن الصاق التهم هو أصعب من الوقوع بها!

تنقل كثيراً بين بيوت أبناءه الثلاثة الذين يتجاورون في الحي، وكل منهم  يعادي الآخر بسبب الزوجات وأحياناً كثيرة..بسبب “نقل الحكي..وتكتير البهارات”

حتى قبلت حنان تلك الرقيقة أن تعتني به، في ذلك الوقت تحديداً دخل زوجها السجن بسبب سرقة وقع بها، دون حاجته!

مكث في السجن قرابة العشر سنوات، كانت فيهما حنان الأم لحماها، ولأبنائها الأربعة..ولنساء الحي!

افتتحت بقالة في منزلها لكي تسترزق منها بينما تربي ابنتها الصغيرة ويتمكن ابنها البكر من ترك الدراسة وايجاد عمل، للأسف لم يعتقها شيخ الشباب -حماها- من ظنونه السيئة!

حتى أنه نشر عنها الكثير من القصص وهو بالكاد يتذكر اسمه لكل من هب ودب في تلك الأرض، ومع كل زبون من الذكورة، يعلو صوته أحياناً بالدعوات عليها وأحياناً بالسباب وأخرى كان يصرخ كثيراً..حتى تدخله وتغلق باب البقالة التي هي في الأساس “باب منزلها” وتبكي بحرقة دون أن يسمع أنينها أحد.

بحثت عن عمل آخر، كي لا تتحول إلى سبب أيضاً في عركلة مستقبل أبنائها، يكفيهم مافعله والدهم، ويكفيها ما سمعته من اتهامات لن تشفع لها سنوات عمرها الناضجة أن تتجاهلها أبداً.

عملت أخيراً في احدى الحضانات، كمنظفة ومسؤولة عن الشاي والقهوة، وإلى جوارها كانت ابنتها الصغيرة ترافقها في كل صباح، حتى مضت السنوات وعاد الأب!

عاد بشعاً في أخلاقه، وأنفاسه، أكثر مما كان عليه.. عمل في بيع الخضراوات هذه المرة، تلك المهنة التي بإمكان أي عاطل عن العمل في المخيمات الفلسطينية بلبنان أن يمتهنها دون الحاجة إلى استخراج شهادة!

لكن القدر لم يشاء أبداً أن يترك حنان تسعد برؤية أبنائها يكبرون في حياة كريمة أبداً، وكأن القدر يغضب كثيراً إن قال له أحدهم “هناك فلسطيني مرتاح” يغضب بطريقة يرمي بها كل من يستحق ولا يستحق بمطبات قد ينتهي بها الأمر إلى انتحار الكثيرين!

التقى زوج حنان بفتاة  في سوق الخضراوات، يا اله من مكان غريب، حين تتحول روائح الصباح التي تمتزج بين العرق والدخان إلى موعد ليلي فزواج، فصمت الجميع لأنه ببساطة..رجل!

تزوج بالفعل، لم يقدر أبداً كافة تضحياتها، ولم يعبىء بحديث أحدهم، لأنه رجل ولأنه في دين المخيمات التي يتوراثها الجميع، بإمكان الرجال أن يخطئوا ليتعلموا، بإمكانهم أن يكذبوا حتى يصدقوا، وأن يشتموا حتى يربوا الآخرين، أن يخونوا زوجاتهم ليتمتعوا، وأن يتزوجوا على تلك التي ضحت لهم عمراً حتى يطبقوا الشرع “مثنى وثلاث ورباع”!

مات شيخ الشباب قبل أن يشهد خروج ابنه وزواجه، مات وفي يديه تلك الوردة التي كان يضعها في جيب قميصه تارة أو يدسها بيه أصابعه تارة أخرى..

مات وهو لم يعي أبداً من هي “جميلة الورود” التي انتظر على ذلك المقعد كثيراً يبحث عنها بين وجوه نساء المخيم، لم يعطها الوردة التي ذبلت بين يداه، ولا حتى دندنة من صوته الفلسطيني الذي يبعث بأمل قد يخيل أحياناً أنه انتهى الأمل منذ عام 1948!

مات.. وبقى مقعده فارغاً

استطاع حتى بعد موته أن يربك حنان بفكرة فتح بقالة من جديد، وأن يصفق لإبنه من زيجته الثانية رغم أنه رحل قبل تهنئته بها.. وتمكن أن يرفع رأسه كثيراً لأنه أورث من خلفه علماً بدين المخيم وعاداته المحرمة.

Write a Comment

Comment